Você está na página 1de 24

‫إسطنبول في أعين ثلثة من الرحّالة العرب‬

‫د‪.‬عبدال إبراهيم*‬
‫( العراق)‬

‫‪ .1‬تمهيد‪ ،‬وإطار تاريخي‪.‬‬


‫عرف الجغرافيون والرحاّلة العرب مدينة إسطنبول منذ وقت مبكّر‪ ،‬وذكروها بأسمائها‬
‫المتعددة في مصادرهم الجغرافية‪ :‬القسطنطينية‪ ،‬والستانة‪ ،‬وإسلمبول‪ ،‬وإسطنبول‪ ،‬وأشاروا‬
‫أيضا إلى أسمائها القديمة‪ ،‬مثل‪ :‬بوزنطيا‪ ،‬وبوزنطيوم‪ ،‬بيزانطيون‪ ،‬والتسميات الخيرة اشتقّت‪،‬‬
‫في الصل‪ ،‬من اسم المغامر اليوناني ‪ Byzas‬الذي جاء في حوالي القرن الثامن قبل الميلد‬
‫من مدينة ميغارا الغريقية‪ ،‬فأنشأ مستعمرة صغيرة أصبحت‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬نواة مدينة إسطنبول‪،‬‬
‫وتلك التسميات كافة تنسب إلى بيزاس بلواحق مختلفة تتغير بين عصر وعصر حسب النسبة‪،‬‬
‫وطريقة النُطق‪ .‬وكانت تلك المستعمرة تشرف على ممر مائي متشعّب يحيط بها من جهات‬
‫ثلث‪ ،‬تقابلها مستعمرة أخرى‪ ،‬هي كالسيدون (خلقدونية) التي خطّها الهيلينيون قبل ذلك بقليل‬
‫في الطرف الخر عبر المضيق المائي‪.‬‬
‫وسرعان ما أصبحت المستعمرة الولى مدينة مركزية تصارع عليها‪ ،‬في القرون اللحقة‪،‬‬
‫الفرس والغريق والرومان والعرب والعثمانيون‪ ،‬فحوصرت‪ ،‬وخرّبت أكثر من مرة‪ ،‬وأعيد‬
‫بناؤها باسم "أغوسطا أنطونينا"‪ .‬لكن المبراطور قسطنطين هو الذي منحها هويتها التاريخية‬
‫المعروفة حينما جعلها عاصمة للمبراطورية في عام ‪330‬م وأطلق عليها تسمية" نوفا روم"‬
‫أي "روما الجديدة" فلم تستجب للتسمية الجديدة‪ ،‬إنما عرفت بمدينة قسطنطين‬
‫‪ .Konstantinopolis‬واحتفظت‪ ،‬طوال القرون الوسطى‪ ،‬باسمها "القسطنطينية"‪ .‬على أن كل‬
‫تلك التغييرات لم تطمس مفعول السم القديم للمستعمرة الصغيرة" بيزانطيون ‪ Byzantion‬إذ‬
‫سمّي الجزء الشرقي من المبراطورية المتفكّكة بذلك السم "المبراطورية البيزنطية" بعد‬
‫انحلل المبراطورية الرومانية‪ .‬وعلى أثر الفتح العثماني للمدينة في ‪ 29‬مايو‪/‬أيار ‪1453‬م‬
‫جرى تسميتها بـ"إسطنبول" ويرجّح أن اللفظ منحوت من العبارة اليونانية ‪ Eis ten Polin‬أو‬
‫‪ Is tin Polin‬ومعناها‪ :‬صوب المدينة‪ ،‬أو باتجاه المدينة‪ .‬وقد خرّج بعض الباحثين اسم"‬
‫إسلمبول" على أنه "مدينة السلم" حيث أراد العثمانيون أن يجعلوا منها الحاضرة السلمية‬
‫ابتداء من منتصف القرن الخامس عشر الميلدي‪ ،‬وقد أصبحت كذلك لعدة قرون‪.‬‬
‫أكثر الجغرافيون والرحالة الوائل من استخدام اسم" القسطنطينية" فورد ذكرها عند‬
‫المسعودي‪ ،‬وابن خرداذبه‪ ،‬وابن رسته‪ ،‬وابن الفقيه‪ ،‬وابن الوردي‪ ،‬والبكري‪ ،‬والدريسي‪،‬‬
‫وذكرها المتأخرون باسم اسطنبول والستانة‪ ،‬وتكلّموا عنها في كافة المراحل التاريخية‬

‫‪1‬‬
‫والسياسية والدينية التي مرّت بها‪ .‬ومن الصعب إحصاء عدد الرحّالة الذين زاروها في حقبتيها‬
‫البيزنطية والعثمانية‪ ،‬ولكن من المؤكد أن تراثا ضخما من المدونات الجغرافية‪ ،‬وأدب الرحلة‪،‬‬
‫قد تراكم حول هذه المدينة المركزية التي ظلت مثار اهتمام سائر المبراطوريات الكبرى‪.‬‬
‫نريد الوقوف على صور اسطنبول في أعين ثلثة من الرحّالة العرب الذين دفعتم ظروف‬
‫متباينة لزيارتها‪ ،‬أولهم هارون بن يحيى الذي أُسر‪ ،‬واقتيد إلى المدينة في حوالي العقد الخير‬
‫من القرن التاسع الميلدي‪ ،‬وربما يكون قد حدث ذلك في عام ‪ 886‬م أو بعده بسنوات قليلة‪،‬‬
‫أي في عهد الخليفة العباسي المعتمد على ال الذي حكم بين العوام ‪892- 870‬م ‪ ،‬أو‬
‫المعتضد بال الذي حكم بين العوام ‪ 902 – 893‬م ويوافق ذلك تقريبا عهدي المبراطور‬
‫البيزنطي باسيليوس الول الذي حكم بين العوام ‪886-867‬م‪ .‬ثم ليو السادس في العوام‬
‫‪ 912-886‬م‪ ،‬لكن بعض المحقّقين من أمثال "كراتشوفسكي" رجّح أن يكون ذلك قد وقع في‬
‫عام ‪900‬م‪ ،‬واستبعد أن يكون أسر هارون قد حصل في عام ‪ ،912‬فذلك عنده" فرض بعيد‬
‫الحتمال"(‪.)1‬‬
‫أورد ابن رسته المتوفى نحو عام ‪912‬م نص رحلة هارون في كتابه "العلق النفيسة"‬
‫وبذلك فروايته قريبة جدا من الزمن الذي يفترض بأن هارون بن يحيى قد أسر فيه‪ .‬ويستبعد‬
‫أن يكون التاريخ الخير هو الصحيح‪ ،‬ففيه توفي ابن رسته نفسه‪ ،‬ولبد أن تكون رحلة هارون‬
‫معروفة قبل ذلك بسنوات تتيح لذلك الجغرافي أن يدرجها في كتابه‪ .‬وليس من المعروف كيفية‬
‫حصول ابن رسته على الرواية التفصيلية التي جاءت على لسان هارون‪ .‬وبالنظر للجهل‬
‫المصاحب لظروف السر‪ ،‬ومصير السير نفسه‪ ،‬فل يعرف على وجه التحديد كيف منحت‬
‫الفرصة لهارون للتجوال في أنحاء المدينة ووصفها وصف عارف إل على اعتبار أنه قد حرّر‬
‫من السر‪ ،‬ومكث فيها مدة أتاحت له كل ذلك‪ ،‬إذ سرعان ما أصبحت روايته أصل معتمدا‬
‫لكثير من المظان الجغرافية التي أتت على ذكر المدينة فيما بعد‪ ،‬ويرجّح أنه أول عربي زار‬
‫القسطنطينية وقدّم عنها وصفا شامل‪ ،‬وقد تكشّفت معرفته الجغرافية والدينية والتاريخية‬
‫بأحوال المدينة على نحو مثير للتقدير‪.‬‬
‫أما الرحالة الثاني‪ ،‬فهو ابن بطوطة(‪1377-1304‬م)الذي زار المدينة‪ ،‬وهو في الثلثين‬
‫من عمره‪ ،‬قادما من جهة القرم بقافلة كبيرة تخص السلطانة(=الخاتون)الرومية "بيلون" زوجة‬
‫السلطان المغولي محمد أوزبك خان‪ ،‬لزيارة أهلها‪ ،‬ومكث في المدينة ستة وثلثين يوما‪ ،‬وذلك‬
‫في بداية خريف عام ‪1334‬م‪ ،‬وخلل هذه الفترة كان المبراطور هو أندرونيكوس الثالث‬
‫الذي حكم بين العوام ‪1341-1328‬م‪ ،‬وقدّم ابن بطوطة وصفا شائقا عن المدينة في رحلته‬
‫"تحفة النظّار في غرائب المصار وعجائب السفار"‪ .‬وثالث هؤلء الرحالة هو المام محمد‬
‫رشيد رضا(‪1935-1865‬م)الذي زارها في عام ‪ 1909‬بعد سنة من إعادة العمل بالدستور‬

‫‪2‬‬
‫العثماني المعطّل إذ بدأت الحقبة الدستورية‪ ،‬وقد توجّه المام إلى إسطنبول‪ ،‬للسعي في إنشاء‬
‫معهد إسلمي‪ ،‬والتوسّط لتحقيق التفاهم بين عنصري السلطنة الكبرين العرب والترك‪ ،‬فطاف‬
‫في أرجاء عاصمة الخلفة‪ ،‬وكتب عنها في مجلته" المنار" سلسلة انطباعات ظهرت خلل عام‬
‫‪1910‬م‪ ،‬ثم جُمعت‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬ونُشرت في كتاب" رحلت المام محمد رشيد رضا"‪.‬‬
‫انتقينا هذه الرحلت الثلث من بين عدد وافر من نصوص الرحلة العربية لنظهر أن أدب‬
‫الرحلة لم يقتصر على رحّالة محترفين كابن بطوطة وابن جبير‪ ،‬إنما شمل رجال كتبوا‬
‫انطباعاتهم في سياق زيارات وأسفار متباينة السباب‪ ،‬وفي عصور مختلفة‪ .‬ومن الجدير‬
‫بالذكر أن كثيرا من الجغرافيين العرب اعتمدوا على ملحظات الرحّالة في معظم ما أوردوه‬
‫عن مدينة إسطنبول من أوصاف فيما بعد‪ ،‬وأخصّ منهم الحميري في كتابه" الروض المعطار‬
‫في خبر القطار"(‪)2‬الذي أعاد سبك ما تركه السابقون عليه‪ ،‬فكانت المدونة الكتابية حولها‬
‫تنمو‪ ،‬ويعاد صقلها‪ ،‬بين عصر وآخر‪ ،‬دونما يطرأ عليها تغيير كبير‪.‬‬
‫وبالنظر لهمية نصوص الرحّالة العرب حول إسطنبول‪ ،‬وتعذّر الحصول عليها إل‬
‫بصعوبة‪ ،‬فقد حرصنا على إيرادها كاملة في تضاعيف هذا البحث الذي يتطلّع إلى تقديم تحليل‬
‫مقارن يقوم على تباين رؤية الرحّالة العرب لمدينة إسطنبول‪/‬القسطنطينية‪ /‬الستانة (سوف‬
‫نستخدم التسمية التي يتبناها الرحالة أنفسهم) في ضوء مواقفهم الدينية والفكرية‪ ،‬آخذين في‬
‫الحسبان أن الفارق الزمني بين الصورتين الولى والثانية يقارب ‪ 450‬عاما‪ ،‬وبين الثانية‬
‫والثالثة نحو ‪ 575‬سنة‪ ،‬فخلل أكثر من ألف سنة تعاقب على حكم المدينة عدد كبير من‬
‫الباطرة‪ ،‬والملوك‪ ،‬والبابوات‪ ،‬والسلطين‪ ،‬وعرفت لحظات صعود تاريخي كبير‪ ،‬ولحظات‬
‫أفول وتراجع‪ ،‬ومع ذلك فقد حافظت على تنوعها الديني والعرقي والثقافي‪ ،‬وعلى موقعها‬
‫الرمزي كونها العروة التي ربطت الشرق بالغرب‪ ،‬والسلم بالمسيحية‪ .‬وكانت نقطة التماس‬
‫بين المركزيتين السلمية والغربية‪ ،‬وموضوعا للتنافس بينهما‪.‬‬
‫‪ .2‬هارون بن يحيى أسيرا في القسطنطينية‪.‬‬
‫أورد ابن رسته في مطلع القرن العاشر الميلدي رحلة هارون بن يحيى إلى‬
‫القسطنطينية الذي اقتيد إليها أسيرا من بلد الشام‪ ،‬وحُمل على طريق البحر في المراكب‬
‫باتجاه العاصمة البيزنطية‪ ،‬فساروا ثلثة أيام حتى بلغوا أنطالية‪ ،‬وهي على ساحل البحر‪ ،‬ثم‬
‫حملوا منها على البريد مسيرة ثلثة أيام في الجبال والودية والمزارع‪ ،‬حتى انتهي بهم‬
‫الرتحال إلى مدينة يقال لها نقية(=إزنيك) وهي مدينة عظيمة بها ناس كثير‪ ،‬ثم انتهوا بعد‬
‫ثلثة أيام إلى مدينة يقال لها سنقرة‪ ،‬وهي صغيرة في صحراء ملساء‪ .‬ويكتفى ابن رسته بهذا‬
‫القدر الوجيز من التلخيص الواصف لمرور هارون بن يحيى في الناضول‪ ،‬ثم ينتقل مباشرة‬
‫إلى تضمين رحلته بضمير المتكلّم في ثنايا كتاب "العلق النفيسة"‪ .‬وهي تمثل ملحظات‬

‫‪3‬‬
‫شاهد عيان من الدرجة الولى لمدينة كبيرة أثارت الهتمام في نفس هارون‪ ،‬مثلما أثارت‬
‫الدهشة والعجب‪.‬‬
‫قال هارون بن يحيى"‪..‬ثم خرجنا مشاة‪ ،‬فمشينا في الصحراء‪ ،‬ويمنتنا ويسرتنا قرى للروم‬
‫حتى انتهينا إلى البحر في مقدار يومين‪ ،‬ثم ركبنا البحر فسرنا مقدار يوم حتى انتهينا إلى‬
‫مدينة قسطنطينية‪ ،‬وهي مدينة عظيمة اثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا‪ .‬وفرسخهم على‬
‫ما ذكر ميل ونصف‪ .‬ويحيط البحر مما يلي المشرق منها وغربيّها صحراء يؤخذ منها إلى‬
‫الرومية (=مدينة روما) وعليها حصن‪ ،‬والباب الذي يؤخذ منه إلى الرومية من ذهب وإلى‬
‫جانبه ناس من خدمه‪ ،‬ويسمى باب الذهب‪ .‬وعلى الباب تماثيل خمسة على مثال الفيلة‪ ،‬وتمثال‬
‫على صورة رجل قائم قد أخذ بزمام تلك الفيلة‪ .‬ولها باب مما يلي الجزيرة يقال له باب‬
‫بيغاس‪ ،‬موضع يتنزّه الملك إليه‪ ،‬وهو باب من حديد‪ .‬وبقرب الكنيسة في وسط المدينة بلط‬
‫الملك‪ ،‬وهو قصر وإلى جانبه موضع يقال له البذرون(= يقصد ‪ Hippodrome‬أي ساحة‬
‫الفروسية‪ ،‬واللعاب العامة‪ ،‬وتعرف الن بساحة السلطان أحمد) وهو يشبه الميدان يجتمع فيه‬
‫البطارقة فيشرف عليهم الملك من قصره في وسط المدينة‪ ،‬وقد صور في القصر أصنام‬
‫مفرغة من صفر على مثال الخيل‪ ،‬والناس‪ ،‬والوحوش‪ ،‬والسباع‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وعلى غربي‬
‫الميدان مما يلي باب الذهب بابان يسوقون إلى هذين البابين ثمانية من الخيل‪ ،‬وهناك عجلتان‬
‫من ذهب يشدّ كل عجلة على أربعة من الخيل‪ ،‬ويركب فوق العجلة رجلن قد البسا ثيابا‬
‫منسوجة بالذهب‪ ،‬ويتركها تجري بما نيط إليها من العجل حتى تخرج من تلك البواب فتدور‬
‫على تلك الصنام ثلث دورات فأيّها سبق صاحبها ألقى إليه من دار الملك طوق من ذهب‬
‫ل من في قسطنطينية يشهدون ذلك الميدان ويبصرون‪.‬‬
‫ورطل ذهب‪ ،‬وك ّ‬
‫وعلى قصر الملك سور واحد يحيط بجميع القصر‪ ،‬ودورانه فرسخ‪ .‬أحد جنباته مما يلي‬
‫المغرب متصل بالبحر وله ثلثة أبواب من حديد يقال لحدها باب البيدرون‪ ،‬والخر باب‬
‫المنكنا‪ ،‬والثالث باب البحر‪ .‬وأما باب البيدرون فتدخل في دهليز مقدار مائة خطوة في عرض‬
‫خمسين خطوة وعلى الجانبين من الدهليز أسرّة موضوعة عليها فرش من ديباج ومضربّات‬
‫ووسائد‪ ،‬وعليها قوم من السودان متنصّرة بأيديهم أترسة ملّبسة ذهبا‪ ،‬ورماح عليها ذهب‪ .‬وأما‬
‫باب المنكنا فتدخل إلى دهليز طوله مقدار مائتي خطوة في عرض خمسين خطوة مفروش‬
‫بالرخام وأسرّة موضوعة في جانبي الدهليز عليها قوم خَزر في أيديهم القسّى‪ ،‬وفي الدهليز‬
‫أربعة حبوس‪ :‬حبس منها للمسلمين‪ ،‬وحبس لهل طرسوس‪ ،‬وحبس للعامّة‪ ،‬وحبس لصاحب‬
‫الشرط‪ .‬وباب البحر فانّك تدخل في دهليز طوله ثلثمائة خطوة في عرض خمسين خطوة‪ ،‬وهو‬
‫مفروش بآجر أحمر‪ .‬وفي الدهليز أسرّة يمنة ويسرة عليها فرش متخذة‪ ،‬وعليها قوم أتراك‬
‫بأيديهم القسّى والترسة‪ ،‬فتمضي في الدهليز حتى تنتهي إلى فضاء مقدار ثلثمائة خطوة ثم‬

‫‪4‬‬
‫تنتهي إلى الستر المعلّق على الباب الذي يفضي إلى الدار‪ ،‬ويسرة الداخل كنيسة الملك (=‬
‫يرجّح أنه يقصد بها آيا صوفيا) ولها عشرة أبواب أربعة منها ذهب وستة فضة‪ ،‬وفي‬
‫المقصورة التي يقف عليها الملك موضع أربع أذرع في أربع أذرع مرصّع ذلك الموضع باّلدّر‬
‫والياقوت‪ ،‬وكذلك مسنده الذي يستند إليه مرصّع بالدر والياقوت‪.‬‬
‫وعلى باب المذبح أربعة أعمدة من رخام منقورة من قطعة واحدة‪ ،‬وطول المذبح الذي‬
‫يصلّى عليه القُسّ ستة أشبار في عرض ستة أشبار‪ ،‬وهو قطعة خشب عود قمارىّ مرصّع‬
‫بالدرّ والياقوت يقف عليه قُسّ الملك وسائر سقوف الكنيسة كلّها آزاج معمولة من الذهب‬
‫والفضة‪ .‬ولهذه الكنيسة أربعة صحون كل صحن منها مائتا خطوة في عرض مائة خطوة‪،‬‬
‫وأما الصحن الشرقي ففيه جرن محفور من رخام طوله عشر أذرع في عرض مثلها‪ ،‬وقد‬
‫نصب هذا الجرن على رأس عمود من رخام ارتفاعه من الرض أربع أذرع قد عقد عليه قبّة‬
‫من رصاص‪ ،‬وأعلى القبّة قبّة من فضة تحمل هذه القبّة اثنا عشر عمودا طول كل عمود أربع‬
‫أذرع أحد أعمدتها على رأسه صورة بازى‪ ،‬وعلى الثاني صورة حمل‪ ،‬وعلى الثالث صورة‬
‫ثور‪ ،‬وعلى الرابع تمثال ديك‪ ،‬وعلى الخامس تمثال أسد‪ ،‬وعلى السادس تمثال لبوة‪ ،‬وعلى‬
‫السابع تمثال ذئب‪ ،‬وعلى الثامن تمثال قبج‪ ،‬وعلى التاسع تمثال طاوس‪ ،‬وعلى العاشر تمثال‬
‫فرس‪ ،‬وعلى الحادي عشر تمثال فيل‪ ،‬وعلى الثاني عشر تمثال ملك‪.‬‬
‫وبالقرب من هذه القبّة في هذا الصحن على مائتي خطوة صهريج قد أجرى منه الماء إلى‬
‫تلك التماثيل على رؤوس الساطين‪ ،‬فإذا كان يوم عيدهم ملء ذلك الصهريج بمقدار عشرة‬
‫آلف دورق نبيذ‪ ،‬وألف دورق عسل أبيض يطرح على ذلك الشراب‪ ،‬فيطيّب بالسنبل والقرنفل‬
‫والدارصيني مقدار حمل‪ ،‬ويغطّى ذلك الصهريج إلّ شيئا منه بشيء‪ ،‬فإذا خرج الملك إلى‬
‫خارج ودخل الكنيسة وقع عينه على تلك الصور وما ينبع من أفواهها وآذانها من ذلك الشراب‬
‫فيجتمع في الجرن حتى يمتلئ‪ ،‬فيسقى كلّ من خرج معه من حشمه إلى العيد كل واحد شربة‪،‬‬
‫فإذا رفعت الستر ودخلت الدار فهو صحن عظيم طوله أربع مائة خطوة في مثلها مفروش‬
‫بالرخام الخضر مزوّق الحيطان بالفسيفساء وألوان التزاويق وعلى اليمنى من داخل الدار‬
‫بيت مال الملك‪ ،‬وفي جوفه تمثال فرس قائم عليه فارس قد اتخذت عيناه من ياقوتتين‬
‫حمراوين‪ ،‬وعلى شمال الداخل مجلس يكون طوله مائتي خطوة في عرض خمسين خطوة‪،‬‬
‫وفي المجلس مائدة من خلنج ومائدة من عاج‪.‬‬
‫وفي الصدر من المجلس مائدة من ذهب‪ ،‬فإذا انقضى العيد وخرج من الكنيسة جاء الملك‬
‫إلى هذا المجلس فقعد في الصدر على مائدة الذهب‪ ،‬وهو يوم الميلد‪ ،‬ويؤمر فيؤتى بأسارى‬
‫المسلمين فيقعدوا على تلك الموائد‪ ،‬وتحمل إليه عند قعوده في الصدر أربع موائد من ذهب‬
‫تحـمل كـل مائدة على عجلة‪ .‬يقال إن إحدى تلك الموائد كانت لسليمان ابن داود عليه السلم‬

‫‪5‬‬
‫مرصّعة بالدّر والياقوت‪ ،‬والثانية لداود عليه السلم مرصّعة أيضا‪ ،‬والثالثة مائدة قارون‪،‬‬
‫والرابعة مائدة قسطنطين الملك‪ ،‬فتوضع بين يديه ول يؤكل عليها إنما تترك ما دام الملك على‬
‫مائدته‪ ،‬فإذا قام رفعت ثم يؤتى بالمسلمين وعلى تلك الموائد من الحارّ والبارد أمر عظيم‪ ،‬ثم‬
‫ينادى منادى الملك فيقول‪ :‬وحياة رأس الملك‪ ،‬ما في هذه الطعمة شيء من لحم خنزير‪،‬‬
‫وينقل إليهم تلك الطعمة في صحاف الذهب والفضة‪ ,‬ثم يؤتى بشيء يقال له الرقنا‪ ،‬وهو‬
‫شيء متّخذ من الخشب المربع على صنعة معصرة‪ ،‬وتغشى تلك المعصرة بأدم وثيق‪ ،‬ثم‬
‫يجعل فيه ستون أنبوبة من صفر رؤوسها إلى أنصافها إلى فوق قد غشيت تلك النابيب‬
‫بالذهب فوق الدم حتى ل يبين منها إل اليسير على تقارب أقدارها واحدة أطول من الخرى‪.‬‬
‫وإلى جانب هذا الشيء المربع ثقب يجعل فيه منفخ ككور الحدادين‪ ،‬ويؤتى بثلثة صلبان‬
‫فيجعل اثنان منها في طرفيه وواحد في الوسط‪ ،‬ثم يؤتى برجلين ينفخان في ذلك المنفخ‪ ،‬ويقوم‬
‫الستاذ فيحسب على تلك النابيب فيتكلم كل أنبوبة بحالها على حسب ما يحسب عليه من‬
‫الثناء على الملك‪ ،‬والقوم كلهم جلوس على الموائد ويدخل عليه عشرون رجل بأيديهم‬
‫الحلباقات والحلباق الصنج يضربون فيها ما داموا يأكلون ويطعمون على هذه الصفة اثني‬
‫عشر يوما‪ ،‬فإذا كان آخر هذه اليام يعطى كل أسير من المسلمين دينارين وثلثة دراهم‪ ،‬ثم‬
‫يقوم الملك ويخرج من باب البيدرون‪.‬‬
‫خروج الملك إلى الكنيسة العظمى التي للعامة(= رجّح بعض الباحثين أن المقصود بها‬
‫دير إستديوس الذي بني في نحو منتصف القرن الخامس الميلدي) يأمر بأن يفرش له في‬
‫طريقه من باب القصر إلى الكنيسة التي للعامة في وسط المدينة حصر ويطرح فوقها رياحين‬
‫وخضرة‪ ،‬ويزيّن الحائط يمنة ويسرة من ممره بالديباج‪ ،‬ثم يخرج بين يديه عشرة آلف شيخ‬
‫عليهم ديباج أحمر مسبلة شعورهم إلى أكتافهم ليس عليهم برانس‪ ،‬ثم يجيء خلفهم عشرة آلف‬
‫شاب عليهم ديباج أبيض مشاة كلهم‪ ،‬ثم يجيء عشرة آلف غلم عليهم ديباج أخضر‪ ،‬ثم‬
‫يجيء عشرة آلف خادم عليهم ديباج لون السماء في أيديهم الطبرزينات الملبسة ذهبا‪ ،‬ثم‬
‫يجيء بعدهم خمسة آلف خصي أواسط عليهم ملحم خراساني أبيض بأيديهم صلبان ذهب‪ ،‬ثم‬
‫يجيء بعدهم عشرة آلف غلم أتراك وخزر عليهم صدر مسيّرة بأيديهم رماح وأترسة ملبسة‬
‫كلها ذهبا‪ ،‬ثم يجيء مائة بطريق من الكبار عليهم ثياب الديباج الملّون بأيديهم مجامر من ذهب‬
‫يبخرون بالعود القمارى‪ ،‬ثم يجيء اثنا عشر بطريقا من رؤساء البطارقة عليهم ثياب منسوجة‬
‫بالذهب في يد كل واحد قضيب من ذهب‪ ،‬ثم يجيء مائة غلم عليهم ثياب مشهّرة مرصّعة‬
‫باللؤلؤ يحملون تابوتا من ذهب فيه كسوة الملك لصلته‪ ،‬ثم يجيء رجل بين يديه يقال له‬
‫الرحوم‪ ،‬يسكّت الناس‪ ،‬ويقول‪ :‬اسكتوا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ثم يجيء رجل شيخ وبيده طشت وإبريق من ذهب مرصّعان بالدرّ والياقوت‪ ،‬ثم يقبل‬
‫الملك وعليه ثياب الكسيمون‪ ،‬وهي ثياب من إبريسم منسوج بالجوهر‪ ،‬وعلى رأسه تاج‪،‬‬
‫وعليه خفّان أحدهما أسود والخر أحمر‪ ،‬وخلفه الوزير‪ ،‬وبيد الملك حقّ من ذهب فيه تراب‪،‬‬
‫وهو راجل كلما مشى خطوتين يقول الوزير بلسانهم "من رمونت إبيابطرا" وتفسيره "أذكروا‬
‫الموت"‪ .‬فإذا قال له ذلك‪ ،‬وقف الملك‪ ،‬وفتح الحقّ‪ ،‬ونظر إلى التراب‪ ،‬وقبّله‪ ،‬وبكى‪ ،‬فيسير‬
‫كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة‪ ،‬فيقدّم الرجل الطشت والبريق فيغسل الملك يده‪ ،‬ويقول‬
‫لوزيره "إنّي بريء من دماء الناس كلهم؛ لن ال ل يسألني عن دمائهم‪ ،‬وقد جعلتها في‬
‫رقبتك"‪ .‬ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره‪ ،‬ويأخذ دواة بلطس‪ ،‬وهي دواة الرجل الذي تبرّأ‬
‫من دم المسيح عليه السلم‪ ،‬ويجعلها في رقبة الوزير‪ ،‬ويقول له "دن بالحق كما دان بلطس‬
‫بالحق"‪ .‬ويدور به على أسواق قسطنطينية‪ ،‬فينادون به "دن بالحق كما قلّدك الملك أمور‬
‫الناس"‪.‬‬
‫ثم يأمر الملك بإدخال أساري المسلمين الكنيسة‪ ،‬فينظرون إلى تلك الزينة والملك‪،‬‬
‫فيصيحون "أطال ال بقاء الملك سنين كثيرة" ثلث مرات‪ .‬ثم يؤمر فيخلع عليهم‪ ،‬ويساق خلفه‬
‫ثلث جنائب شهب عليها سروج ذهب مرصّعة بالدرّ والياقوت‪ ،‬وجلل ديباج مرصّعة أيضا‬
‫بمثل ذلك ل يركبها فيدخلونها إلى الكنيسة‪ ،‬ولها بها لجام معلّق‪ ،‬يقولون إنه متى أخذت الدابّة‬
‫اللّجام في فمها ظفرنا ببلد السلم‪ ،‬فتجيء الدابّة‪ ،‬فتشم اللجام‪ ،‬فتراجع إلى خلفها‪ ،‬ولم تتقدّم‬
‫إلى اللجام‪ .‬ويقال إن هذه الدوابّ من نسل دابّة كانت لوسطاط‪ ،‬ثم ينصرف الملك من الكنيسة‬
‫إلى قصره‪.‬‬
‫وفي غربي الكنيسة‪ ،‬على عشرة خطى‪ ،‬عمود يكون طوله مقدار مائة ذراع‪ ،‬وهو‬
‫مركّب عمود على عمود قد شبّك العمود بسلسل من فضّة على رأس العمود مائدة من رخام‬
‫مربّعة أربع أذرع في أربع أذرع‪ ،‬وفوقها قبر معمول من رخام فيه أسطليانس الذي بنى هذه‬
‫الكنيسة‪ ،‬وفوق القبر تمثال فرس من صفر‪ ،‬وفوق الفرس صورة أسطليانس وعلى رأسه تاج‬
‫من ذهب مرصّع بالدرّ والياقوت(= ربما يقصد به تمثال المبراطور تيودوسيوس)‪ .‬وذكر أنه‬
‫تاج هذا الملك‪ ،‬ويده اليمنى قائمة كأنه يدعو الناس إلى قسطنطينية‪ .‬وعلى الباب الغربي من‬
‫الكنيسة مجلس فيه أربعة وعشرون بابا صغارا‪ ،‬كل باب شبر في شبر معمولة على ساعات‬
‫الليل والنهار؛ فكلما انقضت ساعة انفتحت منها باب من ذات نفسها‪ ،‬وإذا انغلقت انغلقت من‬
‫ذات نفسها‪ .‬وذكروا أنه اتخذ ذلك بلونيوس‪ ،‬وذُكر أن خيلهم معلّمة ل تبرح من مكانها‪ ،‬ول‬
‫يحتاج إلى من يمسكها إذا نزل عنها ال ُقوّاد‪ ،‬ول تصيح ول تجلب‪ ،‬إنما يقال لها شطه فتقف‬
‫كذلك إلى أن يخرج صاحبها من عند الملك‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫قال(=هارون بن يحيى) فسألت بعض الناس عن أمرها‪ ،‬فذهبوا بي إلى ثلثة تماثيل من‬
‫صفر على هيئة الفرس منصوبة على باب الملك عملها بلونيوس الحكيم طلسما للدواب أل‬
‫تصهل ول تشغب بعضها على بعض‪ .‬وعلى باب الملك أيضا أربع حيات معمولة من صفر‬
‫أذنابها في أفواهها طلسما للحيات أل تضر‪ ،‬يقصد الصبيّ إلى حية فيأخذها فل تضره‪ .‬ومما‬
‫يلي باب الذهب من المدينة قبّة قنطرة معقودة في وسط سوق المدينة فيها صنمان واحد يشير‬
‫كأنه يقول بيديه هاته‪ ،‬والخر يشير بيده كأنه يقول اصبر ساعة‪ ،‬وهما طلسمان فيؤتى‬
‫بالَسارَى فيوقفون بين هذين الصنمين ينتظر بهم الفرج‪ ،‬ويذهب رسول يعلم الملك ذلك فإن‬
‫رجع الرسول‪ ،‬وهم وقوف‪ ،‬ذهب بهم إلى الحبس‪ ،‬وإن وافاهم الرسول‪ ،‬وقد جوّز بهم‬
‫الصنمين‪ ،‬قتلوا ولم يبق منهم على أحد‪ .‬ولقسطنطينية قناة ماء يدخل إليها من بلد يقال له بلغر‪،‬‬
‫يجري إليها هذا النهر من مسيرة عشرين يوما‪ ،‬فينقسم إذا دخل المدينة ثلثة أثلث‪ ،‬فثلث‬
‫يذهب إلى دار الملك‪ ،‬وثلث يذهب إلى حبوس المسلمين‪ ،‬والثلث الثالث يذهب إلى حمامات‬
‫البطارقة‪ ،‬وسائر أهل المدينة فإنهم يشربون الماء الذي بين العذب والمالح‪ .‬وأهل بلغر‬
‫يحاربون الروم‪ ،‬والروم تحاربهم"(‪.)3‬‬
‫من الصعب التحقّق فيما إذا كان نص الرحلة منسوبا بكامله إلى هارون بن يحيى‪ ،‬ولكن‬
‫بالمقارنة مع الدبيات الجغرافية التي ظهرت في تلك الحقبة‪ ،‬فل يستبعد أن ابن رسته قد تدخّل‬
‫في صوغ النص بما يجعله محافظا على أسلوب الدب الجغرافي الذي كان شائعا في تلك‬
‫الحقبة وما تلها‪ ،‬وفيه تتكرر لوازم أسلوبية ومعنوية‪ ،‬وتظهر الولى في الولع بالطوال‬
‫والمقاييس‪ ،‬والنهل من ذخيرة لفظية وصفية تلمس مظاهر الشياء ول تغوص فيها‪ ،‬فضل‬
‫عن التفاصيل الدقيقة التي تكشف مبالغة ل تخفى‪ ،‬ول يتاح لحد وصفها بسهولة‪ ،‬منها مثل‬
‫معرفة لغة الرومان‪ ،‬أو فهم محاوراتهم فيها‪ ،‬وتتجلى المعنوية في إسقاط تصورات إسلمية‬
‫على كافة الشكال‪ ،‬والتماثيل‪ ،‬والرسومات‪ ،‬باعتبارها أصناما وطلسم‪ ،‬فالسرد الوصفي يقدم‬
‫مشهدا شبه ثابت للقصور‪ ،‬والكنائس‪ ،‬والسوار‪ ،‬والبوابات‪ ،‬والتماثيل‪ ،‬وحينما يظهر الملك في‬
‫المشهد تتحرك العناصر الخرى‪ ،‬من حرس‪ ،‬وقسوس‪ ،‬ورهبان‪ ،‬وأتباع‪ ،‬وينتهي المشهد‬
‫بطقس ديني كرنفالي‪.‬‬
‫والحال هذه‪ ،‬فإذا أخذنا في الحسبان الدقة في كل ذلك‪ ،‬فيلزم أن تكون الفرصة قد أتيحت‬
‫لهارون بن يحيى في أن يخوض التجارب التي ذكرها كاملة‪ ،‬ومنها تجربة السر‪ ،‬وزيارة‬
‫الكنيسة الكبرى‪ ،‬ومعرفة اللغة‪ ،‬والتجوال في الطرقات‪ ،‬والتأمل في التفاصيل الخاصة بالبعاد‬
‫والطوال والرتفاعات‪ ،‬وأعداد الحرس والرهبان‪ ،‬ول يتأتّى كل ذلك لسير‪ ،‬إل إذا كان قد‬
‫تحرّر من قيوده‪ ،‬وتخطّى تلك التجربة التي تحدّ من الحركة‪ ،‬فتمكّّن من القتراب إلى عالم‬
‫المدينة بكل ما فيه أحداث ووقائع‪ ،‬إذ بدأ بوصف أسوارها‪ ،‬وبواباتها‪ ،‬والتماثيل الرابضة في‬

‫‪8‬‬
‫طرقاتها‪ ،‬وصف عارف‪ ،‬ثم انتقل بأن حدّد مكان البلط الملكي‪ ،‬فذكر بأنه جوار الكنيسة‬
‫الكبرى‪ .‬وشغل بوصف بواباته‪ ،‬وحراسه من أجناس مختلفة كالسودان والخزر والترك‪ ،‬وهذا‬
‫قاده إلى ذكر سجون السرى‪ ،‬ومعتقلت السجناء‪ ،‬وكل منها يختص بجنس‪ ،‬ويرجّح أنه استفاد‬
‫من تجربته في السر‪ ،‬ولم ينس أن يعرّج على العاب الفروسية التي تقام في قلب المدينة‪،‬‬
‫وانتهى بوصف مسهب للكنيسة الكبرى فعرض للطقوس الدينية‪ ،‬والمآدب المبراطورية‪ ،‬ثم‬
‫خروج الملك إلى كنيسة العامة لرعاية المراسيم الدينية‪ ،‬والشراف على الوعظ‪ ،‬والدعوة إلى‬
‫كبح الشهوات والملذات‪ ،‬والتصريح بالتبتل‪ ،‬ونشر المحبة‪ .‬جاء كل ذلك بحديث يمزج بين‬
‫الوصف والسرد‪ ،‬فهو يقدّم المعلومة لكنه يدرجها في سياق له صلة بالمناسبة‪ .‬وسرعان ما‬
‫تتقصّى عين الراوي التفاصيل الدقيقة كافة‪ ،‬فكأنه في موقع الحدث شاهدا مباشرا‪ ،‬ينقل كل ما‬
‫يرى لمستمعين في دار السلم‪ ،‬فلم يغب عنه أي شيء من تلك اللوحة الشاملة‪ .‬على أن‬
‫أسلوب السرد كان رفيعا في تقصّياته‪ ،‬وتدقيقاته‪ ،‬وحرصه على إيراد المشهد كامل‪ .‬ولعلّ‬
‫فرادة هذا النص تكمن في ريادته المبكرة التي رسّخت طريقة بارعة للوصف في أدب الرحلة‪.‬‬
‫أرست هذه الرحلة المنسوبة إلى هارون بن يحيى تقاليد الوصف اللحقة للقسطنطينية عند‬
‫معظم الجغرافيين العرب‪ ،‬وتتضح فيها رغبة معلنة لها صلة بإثارة العجب والدهشة‪ ،‬وتنضيد‬
‫المعلومات الجغرافية‪ ،‬ويظهر فيها انتماء رحّالتنا إلى (عالم القرون الوسطى) بكل معنى‬
‫الكلمة‪ ،‬إذ قدم من دار السلم حيث تتبوأ كلمة ال المكانة السمى‪ ،‬إلى دار الكفر حيث الوثنية‬
‫والضلل‪ ،‬فعجز عن فكّ الشفرات الدينية لليقونات‪ ،‬والتماثيل الخاصة بالقديسين‪ ،‬وبالبابوات‪،‬‬
‫والباطرة‪ ،‬والطقوس الدينية‪ ،‬ناهيك عن الشكال الفنية الجمالية المستلهمة من الحقبة‬
‫الرومانية‪ ،‬بما فيها من تماثيل تنطوي على دللت رمزية‪ ،‬أو وقائع تاريخية‪ ،‬أو تخص‬
‫شخصيات مرموقة من فرسان‪ ،‬وملوك‪ ،‬وأباطرة‪ ،‬وقديسين‪ ،‬فهذه المنطقة مبهمة عند المسلم‬
‫آنذاك؛ لنه يجهل المرجعية الثقافية لذلك العالم المتشابك برموزه‪ ،‬فيجمل القول بأنها أصنام‬
‫وطلسمات‪ .‬ولم يلبث أن كرّس هذا السلوب عند سائر الجغرافيين فيما بعد حيثما دار الحديث‬
‫عن المدن الكبرى في دار الحرب‪.‬‬
‫‪ .3‬تجوال ابن بطوطة في أرجاء القسطنطينية‪.‬‬
‫صدق ابن جُزي حينما وصف ابن بطوطة بأنه "السائح الثقة الصدوق‪ ،‬جوّاب الرض‪،‬‬
‫ومخترق القاليم بالطول والعرض" وأنه "طاف الرض معتبرا‪ ،‬وطوى المصار مختبرا‪،‬‬
‫سيَر العرب والعجم" وهو الذي "طوى المشارق إلى مطلع بدرها‬
‫وباحث فرق المم‪ ،‬وسَبر ِ‬
‫بالمغرب"‪ .‬إنه ذلك الرّحول المسكون بهواجس التجوال‪ ،‬الذي سابق الشمس في إشراقها‪ ،‬وهي‬
‫تزيح عن العالم غطاء الظلم‪ ،‬فل غرابة أن يُسمّى "شمس الدين" وهو يستكشف بإصراره‬

‫‪9‬‬
‫العجيب بلدا متعددة العراق والديان والثقافات‪ ،‬ثم يستعيد كل ذلك في رحلة باهرة‪ ،‬ومدوّنة‬
‫كبيرة تؤرخ للرغبة الدائمة في البحث والتعلّم‪.‬‬
‫ومعلوم أن ابن جزي هو مدوّن رحلة ابن بطوطة‪ ،‬وفي ركن بأقصى غرب دار السلم‬
‫جلس الرحّالة يعيد بناء العالم‪ ،‬بإسراف واضح في السرد‪ ،‬ليحقق ذاته الخرى التي ل شاهد‬
‫على مغامرتها سواه‪ ،‬فبالسرد المتدافع‪ ،‬والغزير‪ ،‬أكد هويته الشخصية والثقافية‪ ،‬وهو يطوف‬
‫في مشارق الرض‪ ،‬ويمخر ديار الحرب‪ ،‬إذ لم يرُق له أن يمكث في مكان بعينه‪ ،‬وما التمس‬
‫ي في‬
‫العذر لنفسه في الستيطان بأرض ما‪ ،‬ولطالما أثار الدهشة في إصراره على المض ّ‬
‫رحلته أيّا ما كانت النتائج‪ ،‬وفي غمار كل ذلك شهد كثيرا من الفروقات الثقافية والدينية عند‬
‫المم‪ .‬وتعدّ رحلته الشمل بين الرحلت العربية‪ ،‬فقد غطت كثيرا من أرجاء العالم القديم برّا‬
‫وبحرا‪.‬‬
‫ينبغي أن يستأثر ابن بطوطة بالهتمام الول فيما يخص مرويّات الرتحال العربية‪ ،‬فقد‬
‫اخترق العوالم الثلثة المعروفة في القرون الوسطى من دون أن يحجم عن طقوسه الدينية‬
‫والحياتية والفكرية والجتماعية‪ ،‬وهي‪ :‬دار السلم التي لمس تضاريسها كاملة من الغرب إلى‬
‫الشرق‪ ،‬ومن الجنوب إلى الشمال‪ ،‬وتجوّل فيها ذهابا وعودة‪ ،‬ودار الحرب التي بلغ أبعد نقطة‬
‫فيها‪ ،‬وهي الشرق القصى للصين‪ ،‬وبلد الخطا‪ ،‬بما في ذلك الهند وكل البلد المجاورة لها‬
‫من الشرق‪ ،‬فضل عن القسطنطينية حاضرة المبراطورية البيزنطية‪ ،‬وفي البحر عبر سيلن‪،‬‬
‫وجنوب شرقي آسيا بكاملها‪ ،‬ثم دار الصلح أو دار العهد‪ .‬وحيثما أقام كان يتوافق مع النسيج‬
‫الثقافي العامّ‪ ،‬ول يمكن القول بأن التقاليد والعراف الدينية قد منعته من الندماج‪ ،‬أو حالت‬
‫دون ذلك‪ ،‬فقد اتصف بقدرة واضحة على التكيّف‪ ،‬وتخطّي الحبسة الثقافية‪-‬العقائدية المهيمنة‬
‫آنذاك‪.‬‬
‫وكانت رحلته أوسع من رحلت سلفه ماركو بولو الذي سبقه إلى أصقاع الشرق بحوالي‬
‫ستين سنة‪ .‬وكما قال" بوكهارت" في وقت مبكر من القرن التاسع عشر فإن ابن بطوطة أعظم‬
‫رحّالة دوّن ملحظاته عن العصر الوسيط‪ ،‬وفضّله "كراتشكوفسكي" على "ماركو بولو" حينما‬
‫قرر أن إحساسه العميق بالبعد الحضاري للشرق كان أعمق بكثير ممّا لدى سلفه الطلياني‪.‬‬
‫وفي وقت كان فيه "ماركو بولو" قد شُغل بالمتاجرة التي استأثرت على ما سواها باهتمامه‪،‬‬
‫فإن ابن بطوطة شغل بكل شيء‪ ،‬وتعدّ رحلته‪ ،‬طبقا للمعايير السائدة في ثقافة القرون الوسطى‪،‬‬
‫رحلة في طلب العلم بالمعنى الواسع للكلمة‪ ،‬إذ تتبع الولياء والفقهاء حيثما كانوا‪ ،‬فما أن‬
‫يطرق سمعه اسم أحدهم إلّ ويغيّر مساره إليه من أجل اللقاء والتبرك به‪ ،‬ومع أنه تزهّد‪،‬‬
‫ووزع ثروته الكبيرة على الفقراء‪ ،‬لكنه بالجمال عاش حياة متجدّدة وحيوية‪ ،‬أنعشها بالزواج‬
‫في كل بلد زاره تقريبا‪ .‬وكان قادرا على التعايش والتفاعل بصورة ندر مثيلها في ذلك الوقت‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫لم ينظر ابن بطوطة لكثير من المم باعتبارها كتل صمّاءَ ل تاريخ لها‪ ،‬ول هويات‪ ،‬إنما‬
‫كان الختلف ينعش مخيلته وذاكرته على حدّ سواء باستثناء الطقوس الوثنية التي ظل يتحفّظ‬
‫عليها‪ .‬وكان حريصا على تتبع الشياء حيثما كانت‪ ،‬وكثيرا ما كان ذلك يكلفه جهدا ومشقّة‪،‬‬
‫ويعرّضه لخطار حقيقية‪ .‬وبسبب كل هذا جاءت رحلته نصّا ثقافيّا متعدد المستويات‪ ،‬فهي‬
‫مدوّنة شديدة الثراء في كشف العالم القديم‪ ،‬ويمكن اعتبارها دون تحفّظ أحد المصادر الكبرى‬
‫عن أحوال العالم في ذلك العصر‪ .‬ليس لنها السجل الذي ضم بين دفتيه صورة الحداث‪،‬‬
‫والفكار‪ ،‬والصراعات‪ ،‬وتقاليد الشعوب‪ ،‬والعقائد الدينية والدنيوية‪ ،‬فحسب‪ ،‬وإنما لنها لم‬
‫تأخذ مسارا واحدا في الوصف والحكم‪ ،‬فهي تضع معا المور في تناقضاتها وتعارضاتها‪،‬‬
‫وتقدح وتمدح‪ ،‬لكن استنادا إلى أدلة تتصل برؤية ابن بطوطة‪ ،‬ومعتقده‪ ،‬والنسق الثقافي الذي‬
‫يغذّي شخصيته‪ ،‬وأهم ما كان يثير سخطه الطقوس الوثنية التي يلحظها بحنق معلن في دار‬
‫الحرب‪.‬‬
‫انطلق ابن بطوطة باتجاه القسطنطينية من جهة البحر السود في العاشر من شوال(=‬
‫‪734‬هـ الموافق ‪14‬حزيران ‪1334‬م) في صحبة السلطانة بيلون‪ ،‬وهي الزوجة الرومية‬
‫للسلطان محمد أزوبك خان‪ ،‬وهو ملك مغولي من القبيلة الذهبية توفي في عام ‪1342‬م‪ .‬كانت‬
‫بيلون تروم زيارة أهلها لوضع مولودها بينهم‪ ،‬وقد حافظت سرا على نصرانيتها‪ ،‬وخططت‬
‫للبقاء في القسطنطينية‪ ،‬فلم تعد إلى زوجها عند انتهاء الزيارة‪.‬‬
‫رافق ابن بطوطة قافلة ضخمة تمثّل موكب السلطانة المتجه إلى القسطنطينية "كان عسكر‬
‫الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين‪ ،‬والباقون من‬
‫الترك‪ .‬وكان معها من الجواري نحو مائتين‪ ،‬وأكثرهن روميات‪ .‬وكان لها من العربات نحو‬
‫أربعمائة عربة‪ ،‬ونحو ألفي فرس لجرّها وللركوب ونحو ثلثمائة من البقر ومائتين من الجمال‬
‫لجرها‪ ،‬وكان معها من الفتيان الروميين عشرة‪ ،‬ومن الهنديين مثلهم‪ .‬وقائدهم الكبر يسمى‬
‫بسنبل الهندي‪ ،‬وقائد الروميين يسمى بميخائيل‪ .‬ويقول له التراك لؤلؤ‪ ،‬وهو من الشجعان‬
‫الكبار‪ .‬وتركت جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع‬
‫الحمل"‪.‬‬
‫وبعد رحلة طويلة حرص ابن بطوطة على وصفها بالتفصيل‪ ،‬وصلوا جميعا "سرداق"‬
‫وهي مدينة "سولديا" الحالية في جزيرة القرم‪ ،‬وكانت "على ساحل البحر ومرساها من أعظم‬
‫المراسي وأحسنها"‪ .‬ثم توجهوا مدينة "بابا سلطوق" وكان "بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية‬
‫عشر يوما في برية غير معمورة منها ثمانية أيام ل ماء بها‪ ،‬يتزود لها الماء ويحمل في‬
‫الروايا والقرب على العربات"‪ .‬وفي الطريق كانت السلطانة تكرم ابن بطوطة "متى أتيتها‬
‫تبعث إلي بالفرسين والثلثة وبالغنم فكنت أترك الخيل ل أذبحها‪ ،‬وكان من معي من الغلمان‬

‫‪11‬‬
‫والخدم يأكلون مع أصحابنا التراك‪ ،‬فاجتمع لي نحو خمسين فرسا وأمرت إلي الخاتون‬
‫بخمسة عشر فرسا"‪.‬‬
‫ولم يلبث الركب أن دخل البرية في منتصف ذي القعدة(‪ 25‬يوليو‪ /‬تموز ‪ )1334‬فـ"كان‬
‫سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة وعشرين يوما وإقامتنا خمسة ورحلنا من‬
‫هذه البرية ثمانية عشر يوما مضحي ومعشي وما رأينا إل خيرا والحمد ل‪ .‬ثم وصلنا بعد ذلك‬
‫إلى حصن مهتولي‪ ،‬وهو أول عمالة الروم‪ .‬وبينه والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوما‬
‫منها ستة عشر يوما إلى الخليج وستة منه إلى القسطنطينية"‪ .‬وعاد بعض المرافقين في هذه‬
‫المرحلة من الطريق‪ ،‬وبقي مع السلطانة ناسها الخلّص‪ ،‬فكان" يؤتى إليها بالخمور في الضيافة‬
‫فتشربها وبالخنازير‪ ،‬وأهملت الصلة‪ ،‬وتغيرت البواطن لدخولنا في بلد الكفر"‪ .‬ثم استقبلت‬
‫القافلة من قبل الروم استقبال حافل من عليّة القوم يتقدمه أخوها وشقيقها في خمسة آلف‬
‫فارس شاكين السلح‪ .‬وبتقدّم القافلة كان يتضاعف عدد المستقبلين "وصل أخو الخاتون وليّ‬
‫العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلف مدرع وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو‬
‫عشرين من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم‪ ،‬وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء إل أن‬
‫الحفل أعظم والجمع أكثر‪ ،‬وتلقت معه أخته في مثل زيها الول وترجل جميعا‪ ،‬وأوتي بخباء‬
‫حرير فدخلت فيه ول أعلم كيفية سلمها"‪.‬‬
‫وتوقف الركب يرتاح على مسافة عشرة أميال من القسطنطينية" فلما كان الغد خرج أهلها‬
‫من رجال ونساء وصبيان ركبانا ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس‪ ،‬وضربت عند الصبح‬
‫الطبال والبواق والنفار وركبت العساكر‪ .‬وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب‬
‫هذه الدولة والخواص وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصى‬
‫طوال في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الورق‪ ،‬وفي وسط الرواق مثل القبة‬
‫يرفعها الفرسان بالعصى‪ ،‬ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج"‪.‬‬
‫ويمضي ابن بطوطة في وصفه الستقصائي‪ ،‬وقد لحت المدينة أمامه" كان دخولنا عند‬
‫الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى(=السبوع الثاني من سبتمبر‪/‬أيلول ‪1334‬م) وقد‬
‫ضربوا نواقيصها حتى ارتجّت الفاق لختلف أصواتها‪ ،‬ولما وصلنا الباب الول من أبواب‬
‫قصر الملك وجدنا به مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكانة‪ ،‬وسمعتهم يقولون "سراكنوا‬
‫سراكنوا" ومعناها المسلمون(=وتطلق على العرب أيضا‪ ،‬والروم تسمي العرب سارقنوس أي‬
‫عبيد سارة زوجة إبراهيم) ومنعونا من الدخول‪ .‬فقال لهم أصحاب الخاتون "إنهم من جهتنا"‬
‫فقالوا "ل يدخلون إل بإذن" فأقمنا بالباب‪ .‬وذهب بعض أصحاب الخاتون فبعث من أعلمها‬
‫بذلك‪ ،‬وهي بين يدي والدها‪ ،‬فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا‪ ،‬وعيّن لنا دارا بمقربة من دار‬
‫الخاتون‪ ،‬وكتب لنا أمرا بأن ل نُعترض حيث نذهب من المدينة‪ ،‬ونودي بذلك في السواق‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫وأقمنا بالدار ثلثا‪ ،‬فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغلة والدجاج والسمن والفاكهة‬
‫والحوت والدراهم والفرش‪.‬‬
‫وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان‪ ،‬واسمه تكفور بن السلطان(= كان الحكم خلل هذه‬
‫الفترة لأندرونيكوس الثالث باليولوج الذي حكم بين العوام ‪1341-1328‬م) وأبوه السلطان‬
‫جرجيس بقيد الحياة(=ل يعرف إمبراطور بهذا السم طوال الفترة التي حكمت فيها أسرة‬
‫باليولوج من عام ‪ 1261‬لغاية عام ‪1453‬م حيث سقطت القسطنطينية بيد العثمانيين) لكنه‬
‫تزهّد وترهّب وانقطع للعبادة في الكنائس وترك الملك لولده‪ .‬وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى‬
‫القسطنطينية بعثت إليّ الخاتون الفتى سنبل الهندي‪ ،‬فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر‪ ،‬فجزنا‬
‫أربعة أبواب في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة‪ ،‬فلما وصلنا‬
‫إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل‪ ،‬ودخل ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين‪،‬‬
‫ففتشوني لئل يكون معي سكين‪ ،‬وقال لي القائد‪ :‬تلك عادة لهم ل بد من تفتيش كل من يدخل‬
‫على الملك من خاص أو عام غريب أو بلدي‪ ،‬وكذلك الفعل بأرض الهند‪ ،‬ثم لما فتشوني قام‬
‫الموكل بالباب‪ ،‬فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي واثنان‬
‫من ورائي‪ ،‬فدخلوا بي إلى مشور كبير حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من‬
‫الحيوانات والجماد في وسطه ماء ومن جهتها الشجار‪ ،‬والناس واقفون يمينا ويسارا سكوتا ل‬
‫يتكلم أحد منهم‪ .‬وفي وسط المشور ثلثة رجال وقوف‪ ،‬أسلمني أولئك الربعة إليهم‪ ،‬فأمسكوا‬
‫بثيابي كما فعل الخرون‪ ،‬وأشار إليهم رجل‪ ،‬فتقدموا بي‪ ،‬وكان أحدهم يهوديا فقال لي‬
‫بالعربي "ل تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد‪ ،‬وأنا الترجمان‪ ،‬وأصلي من بلد الشام"‪.‬‬
‫فسألته كيف أسلّم فقال "قل السلم عليكم"‪.‬‬
‫ثم وصلت إلى قبة عظيمة والسلطان على سريره وزوجته أم هذه الخاتون(=يقصد بيلون)‬
‫بين يديه‪ ،‬وأسفل السرير الخاتون وإخوتها‪ ،‬وعن يمينه ستة رجال‪ ،‬وعن يساره أربعة‪ ،‬وكلهم‬
‫بالسلح فأشار إلي قبل السلم والوصول إليه بالجلوس هنيهة ليسكن روعي‪ ،‬ففعلت ذلك ثم‬
‫وصلت إليه فسلّمت عليه‪ ،‬وأشار أن أجلس فلم أفعل‪ ،‬وسألني عن بيت المقدس والصخرة‬
‫المقدسة‪ ،‬وعن القيامة(=كنيسة القيامة في القدس)وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة‬
‫الخليل عليه السلم‪ ،‬ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلد الروم‪ ،‬فأجبته عن ذلك كله‪،‬‬
‫واليهودي يترجم بيني وبينه‪ .‬فأعجبه كلمي وقال لولده‪ :‬أكرموا هذا الرجل وأمّنوه‪ .‬ثم خلع‬
‫عليّ خلعة‪ ،‬وأمر لي بفرس ملجم‪ ،‬ومظلّة من التي يجعله الملك فوق رأسه وهي علمة‬
‫المان‪ ،‬وطلبت منه أن يعيّن من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أشاهد عجائبها‬
‫وغرائبها‪ ،‬وأذكرها في بلدي فعيّن لي ذلك‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ومن العوائد عندهم أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة‬
‫بالبواق والنفار والطبال ليراه الناس‪ ،‬وأكثر ما يفعل ذلك بالتراك الذين يأتون من بلد‬
‫السلطان أوزبك لئل يؤذون‪ ،‬فطافوا بي في السواق‪ .‬والمدينة هي متناهية في الكبر منقسمة‬
‫بقسمين بينهما نهر عظيم المدّ والجزر على شكل وادي سل من بلد المغرب‪ ،‬وكانت عليه‬
‫خرّبت‪ ،‬وهو الن يعبر في القوارب‪ ،‬واسم هذا النهر َأ ْبسُمي‬
‫فيما تقدم قنطرة مبنيّة ف ُ‬
‫(=المقصود هنا خليج القرن الذهبي) وأحد القسمين من المدينة يسمى اصطنبول‪ ،‬وهو بالعدوة‬
‫الشرقية من النهر وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس وأسواقه وشوارعه مفروشة‬
‫بالصفاح متسعة‪ ،‬وأهل كل صناعة على حدة ل يشاركهم سواهم‪ ،‬وعلى كل سوق أبواب تسد‬
‫عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة بها نساء‪.‬‬
‫والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر‪ ،‬وفي‬
‫أعله قلعة صغيرة‪ .‬وقصر السلطان والسور يحيط بهذا الجبل‪ ،‬وهو مانع ل سبيل لحد إليه‬
‫من جهة البحر وفيه نحو ثلث عشرة قرية عامرة‪ ،‬والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم‬
‫من المدينة‪ ،‬وأمام القسم الثاني منها فيسمى الغَلَطَه‪ ،‬وهو بالعدوة الغربية من النهر شبيه برباط‬
‫الفتح في قربة من النهر‪ ،‬وهذا القسم خاص بنصارى الفرنج يسكنونه وهم أصناف فمنهم‬
‫الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسا‪ ،‬وحكمهم إلى ملك القسطنطينية يقدم عليه منهم‬
‫من يرتضونه ويسمونه القمص‪ ،‬وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية وربما استعصوا‬
‫عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا‪ ،‬وجميعهم أهل تجارة‪ .‬ومرساهم من أعظم المراسي‬
‫رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار‪ ،‬وأما الصغار فل تحصى كثرة وأسواق‬
‫هذا القسم حسنة إل أن القذار غالبة عليها ويشقها نهر صغير قذر نجس‪ ،‬وكنائسهم ل خير‬
‫فيها‪.‬‬
‫والكنيسة العظمى إنما نذكر خارجها وأما داخلها فلم أشاهده‪ ،‬وهي تسمى عندهم أيا‬
‫صوفيا(=‪ Hagia Sophia‬وهي كنيسة كبيرة اكتمل بناؤها في عهد المبراطور جستنيان في‬
‫عام ‪ 537‬م ‪ ،‬وكانت قد أقيمت على أنقاض كنيسة احترقت بناها المبراطور قسطنطين)‬
‫ويذكر أنها من بناء آصف بن برخياء وهو ابن خالة سليمان عليه السلم‪ ،‬وهي من أعظم‬
‫كنائس الروم‪ ،‬وعليها سور يطيف بها فكأنها مدينة وأبوابها ثلثة عشر بابا‪ ،‬ولها حرم هو نحو‬
‫ميل عليه باب كبيرة ول يمنع أحد من دخوله‪ ،‬وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره‪ ،‬وهو‬
‫شبه مشهور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة لها حائطان مرتفعان نحو ذراع‬
‫مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة والشجار منظمة عن جهتي الساقية‪.‬‬
‫ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع عليه دوالي العنب‪،‬‬
‫وفي أسفله الياسمين والرياحين وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلت خشب‬

‫‪14‬‬
‫يجلس عليها خدام ذلك الباب‪ ،‬وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها‬
‫قضاتهم وكتاب دواوينهم‪ ،‬وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب‬
‫وفيها كرسي كبير مطبق بالملف يجلس فوقه قاضيهم‪..‬وعن يسار القبة التي على باب هذا‬
‫المشور سوق العطارين والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين‪ :‬أحدهما يمر بسوق العطارين‪،‬‬
‫والخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب‪.‬‬
‫وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقيمون طرقها ويوقدون سرجها‬
‫ويغلقون أبوابها ول يدعون أحدا بداخلها حتى يسجد للصليب العظم عندهم الذي يزعمون أنه‬
‫بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلم‪ ،‬وهو على باب الكنيسة مجعول في‬
‫جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع‪ ،‬وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليبا‪.‬‬
‫وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص‪ .‬وذُكر لي أن عدد من‬
‫بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلف‪ ،‬وأن بعضهم من ذرية الحواريين‪ ،‬وأن‬
‫بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من البكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف‪ ،‬وأما القواعد‬
‫من النساء فأكثر من ذلك كله‪.‬‬
‫ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحا إلى زيارة هذه‬
‫الكنيسة‪ ،‬ويأتي إليها البابا مرة في السنة‪ .‬وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى‬
‫لقائه ويترجل له‪ ،‬وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه ويأتيه صباحا ومساء للسلم‬
‫طول مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف‪ ،‬والمانستار(=الدير)على مثل لفظ المارستان إل أن‬
‫نونه متقدمة وراءه متأخرة وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين‪ ،‬وهذه المانستارات بها‬
‫كثيرة‪ ،‬فمنها المانستار عمّره الملك جرجيس والد ملك القسطنطينية‪..‬وهو بخارج اصطنبول‬
‫مقابل الغََلطَه‪ ،‬ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها‪ ،‬وهما في داخل‬
‫بستان يشقهما نهر ماء‪ ،‬وأحدهما للرجال والخر للنساء‪ ،‬وفي كل واحد منها كنيسة‪ ،‬وتدور‬
‫بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات‪ ،‬وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين‬
‫ونفقتهم بناهما أحد الملوك‪ ،‬ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل‬
‫هذين الخرين‪ ،‬ويطيف بها بيوت‪ ،‬وأحدهما يسكنه العميان والثاني يسكنه الشيوخ الذين ل‬
‫يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوها‪ ،‬ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة‬
‫لذلك‪ .‬وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبّد الملك الذي بناه وأكثر هؤلء الملوك إذا بلغ‬
‫الستين أو السبعين بنى مانستار‪ ،‬ولبس المسوح وهي ثياب الشعر‪ ،‬وقلّد ولده المُلك واشتغل‬
‫بالعبادة حتى يموت‪ .‬وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء‪،‬‬
‫وهي كثيرة بهذه المدينة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ودخلت مع الرومي الذي عيّنه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر‪ ،‬وفيه كنيسة فيها‬
‫نحو خمسمائة بكر(=راهبات) عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلنيس اللبد‪ ،‬ولهن‬
‫جمال فائق‪ ،‬وعليهن أثر العبادة‪ ،‬وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن النجيل بصوت لم أسمع‬
‫قط أحسن منه وحوله ثمانية من الصبيان على منابر ومعهم قسيسهم‪ ،‬فلما قرأ هذا الصبي قرأ‬
‫صبي آخر‪ ،‬وقال لي الرومي "إن هؤلء البنات من بنات الملوك‪ ،‬وهبن أنفسهن لخدمة هذه‬
‫الكنيسة‪ ،‬وكذلك الصبيان القراء ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة"‪ .‬ودخلت أيضا إلى‬
‫كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبي يقرأ لهن على منبر وجماعة‬
‫صبيان معه على منابر مثل الولين‪ ،‬فقال لي الرومي "هؤلء بنات الوزراء والمراء يتعبدون‬
‫بهذه الكنيسة"‪ .‬ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد‪ ،‬وإلى كنائس فيها العجائز‬
‫والقواعد من النساء‪ ،‬وإلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل أو أكثر أو‬
‫أقل وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون وكنائسها ل تحصى كثرة‪ ،‬وأهل المدينة من‬
‫جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلت الكبار شتاء وصيفا‪ ،‬والنساء لهن‬
‫عمائم كبار‪.‬‬
‫والملك المترهب جرجيس ولّى المُلك لبنه‪ ،‬وانقطع للعبادة‪ ،‬وبنى مانستارا كما ذكرناه‬
‫خارج المدينة على ساحلها‪ .‬وكنت يوما مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماش‬
‫على قدميه‪ ،‬وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد‪ ،‬وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه‬
‫أثر العبادة‪ ،‬وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان وبيده عكاز‪ ،‬وفي عنقه سبحة‪ ،‬فلما رآه الرومي‬
‫نزل وقال لي "انزل فهذا والد الملك"‪ .‬فلما سلّم عليه الرومي سأله عني‪ ،‬ثم وقف وبعث لي‬
‫فجئت إليه‪ ،‬فأخذ بيدي‪ ،‬وقال لذلك الرومي‪ ،‬وكان يعرف اللسان العربي "قل لهذا السراكنوا‪،‬‬
‫يعني المسلم‪ ،‬أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس‪ ،‬والرِجل التي مشت داخل الصخرة‪،‬‬
‫والكنيسة العظمى التي تسمّى قيامة‪ ،‬وبيت لحم‪ ،‬وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه‪،‬‬
‫فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم‪ ،‬ثم أخذ بيدي ومشيت معه‪،‬‬
‫فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى وأطال السؤال‪ ،‬ودخلت معه إلى حرم الكنيسة‬
‫الذي وصفناه آنفا‪ ،‬ولما قارب الباب العظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلم‬
‫عليه‪ ،‬وهو من كبارهم في الرهبانية‪ ،‬ولما رآهم أرسل يدي‪ ،‬فقلت له "أريد الدخول معك إلى‬
‫الكنيسة"‪ .‬فقال للترجمان قل له "ل بد لداخلها من السجود للصليب العظم‪ ،‬فإن هذا مما سنته‬
‫الوائل‪ ،‬ول يمكن خلفه"‪ .‬فتركته‪ ،‬ودخل وحده ولم أراه بعدها‪.‬‬
‫ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتّاب‪ ،‬فرآني القاضي فبعث إلي أحد‬
‫أعوانه‪ ،‬فسأل الرومي الذي معي فقال له‪ :‬إنه من طلبة المسلمين‪ ،‬فلما عاد إليه أخبره بذلك‬
‫فبعث إلى أحد أعوانه‪ ،‬وهم يسمون القاضي النجشي كفالي‪ ،‬فقال لي "النجشي كفالي يدعوك"‬

‫‪16‬‬
‫فصعدت إلى القبة التي تقدّم ذكرها‪ ،‬فرأيت شيخا حسن الوجه واللمة عليه لباس الرهبان وهو‬
‫الملف السود وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون‪ ،‬فقام إلي وقام أصحابه وقال "أنت‬
‫ضيف الملك‪ ،‬ويجب علينا إكرامك"‪ .‬وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر‪ ،‬وأطال الكلم‬
‫وكثر عليه الزدحام‪ ،‬وقال لي "ل بد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك"‪ .‬فانصرفت عنه‪ ،‬ولم ألقه‬
‫بعد‪.‬‬
‫ولمّا ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من التراك أنها على دين أبيها‪ ،‬وراغبة في المقام‬
‫معه‪ ،‬طلبوا منها الذن في العودة إلى بلدهم‪ ،‬فأذنت لهم وأعطتهم عطاء جزيل‪ ،‬وبعثت معهم‬
‫من يوصلهم إلى بلدهم أمير يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس‪ ،‬وبعثت إلي‬
‫فأعطتني ثلثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة‪ ،‬وليس بالطيب‪ ،‬وألفي درهم بندقية‪ ،‬وشقة‬
‫ملف من عمل البنات‪ ،‬وهو أجود أنواعه‪ ،‬وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف وفرسين‪،‬‬
‫وذلك من عطاء أبيها وأوصت بي ساروجة‪ .‬وودعتها‪ ،‬وانصرفت‪ .‬وكانت مدة مقامي عندهم‬
‫شهرا وستة أيام"(‪.)4‬‬
‫تبدو انطباعات ابن بطوطة‪ ،‬وأوصافه الدقيقة‪ ،‬معهودة إذا ما قورنت بحديثه المسهب عن‬
‫الحواضر التي زارها في شتى أرجاء العالم القديم‪ ،‬فهو بارع في رصد المظاهر الدينية‬
‫والجتماعية‪ ،‬وكشف الخلفيات التاريخية للحداث‪ ،‬ولكن رحلته إلى القسطنطينية تتنزل في‬
‫المركز من الرحلت العربية إلى هذه المدينة‪ ،‬فما من رحالة آخر ألمّ بتفاصيل الحياة فيها كما‬
‫ألمّ ابن بطوطة‪ .‬من الصحيح أنه يلتقي مع هارون بن يحيى في الطر العامة لجغرافية‬
‫المدينة‪ ،‬وتقسيماتها العامة‪ ،‬كالقصر الملكي والكنيسة والخليج‪ ،‬لكن ابن بطوطة يتابع بعين‬
‫ثاقبة التفاصيل المثيرة‪ ،‬وهي قدرة اكتسبها وهو يقطع البلدان مدفوعا بفضول المعرفة‪ ،‬ولم‬
‫يلبث أن تطور ذلك الذكاء‪ ،‬ودقة الملحظة‪ ،‬فجاءت رحلته نموذجا رفيعا لكل ما يصبو إليه‬
‫الرحالة فيما بعد‪.‬‬
‫لم تمض سوى أيام أربعة عليه في القسطنطينية إل ونجح ابن بطوطة في مقابلة الملك‬
‫بتوجيه من السلطانة بيلون التي رافقها‪ ،‬ولم يتشكّ‪ ،‬حينما جرى تفتيشه قبل الدخول إلى الملك‪،‬‬
‫فتلك تقاليد يشمل بها كل من يروم زيارته‪ ،‬فقَبلها بل تذمر‪ .‬ويلحظ أنه استخدم الوصف‬
‫الشائع آنذاك "تكفور" للملوك البيزنطيين‪ ،‬ويراد به الوصف وليس التسمية‪ ،‬وكان من قبل‬
‫يطلق على ملوك بلد الرمن‪ ،‬ثم ملوك بيزنطة دللة على الملوك المتوّجين‪ ،‬لكنه كان يطلق‬
‫أيضا على المراء الحاكمين‪ .‬والمفاجأة أن يكون الترجمان يهوديا‪ ،‬وهذه الوساطة اليهودية بين‬
‫مسلم ونصراني لها أكثر من دللة‪ ،‬فقد كان اليهودي عارفا بتراث الثنين‪ ،‬وتمكّن من أداء‬
‫المهمة بأفضل وجه‪ ،‬لكن المفاجأة الخرى أن اللقاء تم في وسط حميمي عائلي‪ ،‬فقد قابله‬
‫الملك وهو بين أفراد أسرته‪ ،‬ودار الحديث حول بيت المقدس‪ ،‬وقبة الصخرة‪ ،‬ثم كنيسة‬

‫‪17‬‬
‫القيامة‪ ،‬واستفسر الملك عن مهد المسيح في بيت لحم‪ ،‬وتطور الحديث فشمل دمشق ومصر‬
‫والعراق‪ ،‬وتجاوز ذلك إلى بلد الروم‪ ،‬وقد أعجب الملك بنباهة محدّثه‪ ،‬وسعة معجمه‬
‫المعرفي‪ ،‬وتمكّنه من علوم عصره‪.‬‬
‫لم يكن ملك القسطنطينية استثناء‪ ،‬فحيثما حلّ ابن بطوطة كان مثار إعجاب الملوك‬
‫والمراء‪ .‬وسرعان ما ظهر أثر ذلك‪ ،‬فقد أكرمه الملك‪ ،‬وأمر بتأمين حاجاته‪ ،‬وبسط حمايته‬
‫عليه‪ ،‬ولم يتردّد الرحالة الضليع في استثمار الفرصة‪ ،‬فقد التمس من الملك أن يخصص له‬
‫دليل يطوف به الحاضرة البيزنطية ليتعرف إليها جيدا‪ ،‬ويحدّث بها قومه حينما يعود إلى بلد‬
‫العرب‪ .‬ولم يكن كرم الملك بأقل ما طلب الرحّالة فقد خلع عليه لباسه‪ ،‬وأركبه فرسه‪ ،‬وراح‬
‫ابن بطوطة يطوف في أسواق القسطنطينية بالبواق والطبال ليعرف الناس بأنه ضيف الملك‪.‬‬
‫فطاف في المدينة بحماية ملكها‪.‬‬
‫لم تتوفر هذه الفرصة لهارون بن يحيى‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فما أن ينتهي ابن بطوطة من وصف‬
‫هذه السلسلة من الصدف الرائعة إل يوازي نصه نص سلفه‪ ،‬فيتطرق إلى قسمي المدينة‬
‫الرئيسين "وبينهما نهم عظيم المد والجزر على شكل وادي سل في بلد المغرب" يقصد بذلك‬
‫الخليج الذي يكاد يشطر المدينة إلى شطرين‪ ،‬وهو الذي سوف يعرف بـ"القرن الذهبي"‬
‫وسوف يطابق ما قاله هارون قبله بنحو خمسة قرون من أن القسم الول من المدينة‪ ،‬واسمه"‬
‫اصطنبول" يسكنه الملك وحاشيته‪ ،‬وفيه أسواق مُعلّمة بحسب المهن والحِرف‪ ،‬ومحميّة بأبواب‪،‬‬
‫وأغلب العاملين فيها من النساء‪ .‬وفي هذا القسم توجد الكنيسة الكبرى‪ ،‬وسماها بالسم‪ :‬آيا‬
‫صوفيا‪ .‬أما القسم الخر‪ ،‬ويعرف بـ" غََلطَه" فهو في العدوة الغربية‪ ،‬يكاد يقتصر على‬
‫نصارى الفرنج القادمين من جنوه‪ ،‬والبندقية‪ ،‬وروما‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬ويتولى أمرهم رجل دين‪،‬‬
‫بأمر من الملك‪ ،‬وحينما يحدث أن يتمرّدوا على سلطة الملك‪ ،‬فإنهم يعاجلهم بالحرب‪ ،‬فيتدخل"‬
‫البابا" فيصلح بينهم‪ ،‬وهم في عمومهم تجار‪ ،‬ولديهم مرسى لم ير ابن بطوطة أكبر منه‪.‬‬
‫واستأثرت منه الكنيسة الكبرى‪ ،‬آيا صوفيا‪ ،‬باهتمام واضح‪ ،‬كما استأثرت باهتمام هارون‬
‫قبل نحو خمسة قرون‪ ،‬ولكنه لم يكن بحظّ سلفه‪ ،‬فقد حُظر عليه التجوال فيها‪ ،‬فذلك مقصور‬
‫على من يسجد للصليب‪ ،‬فيما ظل ابن بطوطة متمسّكا بعقيدته حيثما حلّ وارتحل‪ ،‬لكنه تجول‬
‫في فنائها الخارجي‪ ،‬وصرّح بأنها أعظم الكنائس‪ ،‬وفيها الصليب الخشبي الذي صلب عليه‬
‫السيد المسيح‪ ،‬وفيها‪ ،‬كما روي له‪ ،‬يتعبّد آلف الرهبان بعضهم من ذرية الحواريين‪ ،‬وفيها‪،‬‬
‫إلى ذلك كنيسة خاصة بالراهبات البكار اللواتي يزيد عددهن على ألف‪ .‬وكانت هذه مقدمة‬
‫للتميز بين المبراطور والبابا‪ ،‬فالخير هو صاحب المقام الرفيع‪ ،‬وهو ل يزور" آيا صوفيا"‬
‫إل مرة واحدة في السنة‪ ،‬أما المبراطور فيمر بها كل صباح محاطا بحاشيته‪ ،‬ولكن لهل‬
‫المدينة أديرة أخرى كثيرة يمارسون العبادة فيها‪ ،‬وقد تقصّاها ابن بطوطة‪ ،‬ولم يظهر تسفيها‬

‫‪18‬‬
‫للطقوس الدينية النصرانية‪ ،‬إنما نظر إليها بتقدير واضح‪ ،‬مشيدا بانقطاع العبّاد إلى عبادتهم‬
‫بخشوع ورهبة‪.‬‬
‫ن جمال فائق وعليهن أثر العبادة"‬
‫ثم لفت انتباهه دير خاص بالراهبات حليقات الشعر "له ّ‬
‫ن لخدمة ال‪ ،‬يقرأ عليهن النجيل صبي حسن‬
‫وجميعهن من بنات الملوك‪ ،‬وقد وهبن أنفسه ّ‬
‫الصوت‪ ،‬ولحظ أيضا بأن لبنات الوزراء‪ ،‬والمراء‪ ،‬ووجوه البلد‪ ،‬أديرة مماثلة‪ .‬وقد قادته‬
‫خطواته في طرقات المدينة في يوم إلى لقاء الملك الب المترهّب "جرجيس" ماشيا على‬
‫قدميه‪ ،‬وقد رآه بهيئة الفقير المتعبّد‪ ،‬وحينما عرف أصل ابن بطوطة شرع الملك يصافحه‪،‬‬
‫ويتبرّك به كونه قد زار بيت المقدس‪ ،‬بل إنه رافقه في تطوافه في المدينة‪ ،‬لكنه امتنع عن‬
‫إدخاله الكنيسة الكبرى معه‪ ،‬فهو ليس من عبّاد الصليب‪ .‬وتأتي المفاجأة في نهاية الرحلة‪ ،‬فقد‬
‫بلغه ارتداد السلطانة بيلون عن السلم‪ ،‬وعودتها إلى ديانتها النصرانية‪ ،‬وقرارها البقاء في‬
‫مسقط رأسها وترك زوجها السلطان المغولي‪ ،‬ولهذا استأذن منها أتباعها العودة إلى بلدهم‪،‬‬
‫فأذنت لهم‪ ،‬وأكرمتهم‪ ،‬وشمل هذا الكرم ابن بطوطة الذي غادر المدينة معهم بعد أن أمضى‬
‫في القسطنطينية شهرا وستة أيام‪.‬‬
‫‪ .4‬محمد رشيد رضا‪ :‬حال الستانة العمرانية والجتماعية‪.‬‬
‫رحل المام محمد رشيد رضا إلى القسطنطينية‪ ،‬كما يقول" للسعي في أمرين عظيمين‪:‬‬
‫إنشاء معهد علمي إسلمي‪ ،‬وحُسن التفاهم بين عنصري الدولة الكبرين العرب والترك"(‪.)5‬‬
‫وأفاض في شرح الملبسات حول هذين المرين بعد أن أعلنت الحقبة الدستورية‪ ،‬ومنها‬
‫اجتماعاته مع عليّة القوم في عاصمة الخلفة‪ ،‬وخلل وجوده انتهز الفرصة فتجوّل في‬
‫المدينة‪ ،‬وقدّم عنها وصفا يقوم على سلسلة من الحكام القيمية التي يتميز بها بوصفه رجل‬
‫دين‪ .‬وذكرها بأسمائها الثلثة‪ :‬القسطنطينية‪ ،‬استانبول‪ ،‬والستانة‪.‬‬
‫بدأ محمد رشيد رضا بوصف موقع المدينة‪ ،‬وحالها العمرانية التي أثارت سخطه الواضح‬
‫"موقع هذه المدينة مشهور في جماله ومحاسنه الطبيعية‪ ،‬ولو كانت هذه الدولة التي استولت‬
‫عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنية لجعلتها زينة الرض ومثابة المم‪ ،‬ولكان لهلها من‬
‫السائحين مورد من أغزر موارد الثروة‪ ،‬ولكنك ل تجد فيها أثرا من آثار العمران الحديث إل‬
‫المعسكرات من الثكنات والمدارس‪ ،‬فصوفية العاصمة البلغار وأثينا عاصمة اليونان والقاهرة‬
‫عاصمة مصر‪ ،‬كل أولئك أرقى من عاصمة الدولة عمرانا‪ ،‬فالستانة موقع جميل‪ ،‬ومعسكر‬
‫كبير‪ ،‬ل تغيب الجنود عن عينيك فيها دقيقة من الزمان‪ ،‬فعسى ال أن يسخّر لها الرجال الذين‬
‫يعمرونها بعمران المملكة‪ ،‬ل بالستقراض من الجانب بالربا الذي يجعلها تحت سيطرتهم‪،‬‬
‫وعرضة عند الحوادث لمداخلتهم"‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وبعد هذا الستهلل مضى قائل "أما العمران المعنوي وهو العلم والدب فلها حظ منه‬
‫تفضل به مصر وسورية وهو أن التعليم فيها أعم وأشمل‪ ،‬وتربية النساء أسمى وأنبل‪ ،‬وذلك‬
‫بأن أموال المملكة كانت تجبى إليها حتى ل يبقى في كل ولية إل الضروري الذي ل يمكن‬
‫الستغناء عنه مع إباحة الرشوة والسلب والنهب فكثرت فيها المدارس للذكور والناث‪ ،‬على‬
‫أن الداب السلمية الموروثة ل تزال أقوى في بيوت هذه المدينة منها في بيوت مصر فل‬
‫ترى امرأة في نافذة ول على سطح إل أن تكون مستورة البدن والرأس كما تكون في السوق‬
‫ول تسمع من البيوت ول في السواق والشوارع صخبا ول هجرا من القول كما تسمع في‬
‫أسواق القاهرة وشوارعها‪ ،‬ول يتبرّجن بمصر إل في بعض المواسم كآصال أيام رمضان في‬
‫جهة الشاه زاده‪ ،‬وإل في بعض الضواحي حيث يسرحن ويمرحن متنزهات مظهرات لزينتهن‪،‬‬
‫على أن الكثيرات منهن يسفرن عن وجوههن في السواق والشوارع ولكنهن مع ذلك‬
‫يغضضن من أبصارهن كما أمر ال تعالى‪.‬‬
‫وإذا خرجن في الليل من دار إلى دار يخرجن بالجبة أو العباءة العربية المعروفة وبالقناع‬
‫البيض وذلك يكون زيهن الغالب في المتنزهات‪ .‬فجملة القول إن آدابهن حسنة في خروجهن‬
‫في السواق والشوارع وبيوتهن نظيفة مرتبة ولولدهن حظ عظيم من النظافة والداب‪.‬‬
‫ويقول المختبرون من أهل البلد ومن الغرباء المقيمين فيه أن آداب غير المتعلمات أو‬
‫المتعلمات على الطريقة الحديثة الفرنجية‪ ،‬وهن أشد عناية بالنظافة أيضا‪ ،‬فالتفرنج في البيوت‬
‫هو الخطر الكبر الذي ينذر البيوت السلمية بالفساد‪ ،‬وفي هذا البلد وغيره من البلد‪ ،‬ويقال‬
‫إن أحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين يريد أن يربي بنات المسلمين في المدرة التي يسعى‬
‫في إنشائها مع بنات الفرنج والروم والرمن تربية ليس لها من صبغة الدين شيء‪ ،‬فإذا تم‬
‫هذا المقصد فبشر بيوت هذا البلد بالخراب المعنوي والفساد الذي ل يفوقه فساد‪.‬‬
‫إن علم النساء المسلمات في الستانة دون علم الوربيات‪ ،‬ولكن تربيتهنّ الدينية والدبية‬
‫أعلى من تربية الوربيات كما شهد بذلك غير واحدة من هؤلء بعد الختبار التام ومنهن من‬
‫صرحت بأن التفرنج آفة مفسدة لنساء الترك‪ .‬نعم إنه يمكن أن تترقّى معارفهن وآدابهن‪ ،‬ولكن‬
‫يجب أن يكون الدين هو أساس التربية‪ ،‬وأن تكون العناية به فوق العناية بالعلم‪ ،‬وليس في‬
‫أوروبا شعب يربّي البنات على اللحاد أو ترك الدين‪ ،‬إن أثبت الشعوب الوربية مدنية هو‬
‫أشدها عناية بتربية النساء والطفال تربية دينية‪.‬‬
‫إن بين استانبول‪ ،‬وقسم غََلطَه‪ ،‬وبك أوغلي‪ ،‬تباينا عظيما في العادات ونظام المعيشة وحالة‬
‫العمران على أن المسافة بينها تقطع بدقيقتين‪ ،‬إذ الفاصل بينها هو الخليج المشهور‪ ،‬وعليه‬
‫جسران للمشاة والركبان ومنهم من يقطعه بالزوارق‪ .‬تشبه استانبول في عاداتها بلد المشرق‬
‫السلمية القديمة كطرابلس الشام فأزياء النساء في مدن سورية إل ما امتزن به‪ .‬وأزياء‬

‫‪20‬‬
‫الرجال فيها كأزياء الرجال في مدن سورية‪ :‬الطربوش‪ ،‬والعمامة البيضاء‪ ،‬والعمامة‬
‫المطرّزة‪ ،‬والعمامة الخضراء‪ ،‬والمناديل الملونة‪ .‬كل ذلك من أزياء الرؤوس‪ ،‬وكله كثير‪ .‬وأما‬
‫سكان قسم غلطه فتكثر فيه مزاحمة الكمم والقلنس للطرابيش المجردة ويقل فيه غير ذلك‪.‬‬
‫يتعشى أهل استانبول بعيد المغرب كأهل سورية وتقفل أكثر المطاعم بعد العشاء بقليل‬
‫على حين يبتدئ أهل القسم الخر بالطعام وتظل مطاعمهم مفتوحة إلى قرب منتصف الليل‬
‫ويسهرون كثيرا ول يسهر أولئك إل قليل‪ .‬ويكثر الفسق العلني والسري في قسم غلطة والفسق‬
‫العلني ممنوع في استانبول‪ .‬وآداب الرجال العمومية حسنة كآداب النساء فل تكاد تنكر على‬
‫رفيع ول وضيع قول خشنا ول كبرا وترفعا ولكنك كثيرا ما تنكر عليهم إخلف الوعد وما في‬
‫معنى الخلف حتى يقل أن يثق المختبر بقوله يسمعه وسبب ذلك تأثير الستبداد الشديد وما‬
‫كان من الضغط والمراقبة على عهد عبد الحميد‪ ،‬فذلك هو السبب الطبيعي لفشو الكذب‬
‫والخلف والتقلب في كل المم‪ ،‬ولهذه العلة كثر الكذب والخلف والتقلّب وعدم الثبات في‬
‫جميع البلد العثمانية كما كثر ذلك من قبل في مصر ول على عهد إسماعيل باشا(‪.)6‬‬
‫ينبغي الخذ في الحسبان بأن المام كان متحيزا للفكرة التقليدية القائمة على مفهوم‬
‫الخلفة السلمية لكنه لم يغفل مظاهر الستبداد في السلطنة‪ ،‬وهذا جعله يقف موقفا سلبيا من‬
‫الصلحات الدستورية التي حدّت من سلطان الخليفة‪ ،‬وشرعت الفق أمام الخصوصيات‬
‫العرقية واللغوية والدينية‪ ،‬وفي ذروة هذه الزمة التي أدت إلى تفكك المبراطورية بعد سنوات‬
‫قليلة‪ ،‬وصل المام إلى المدينة‪ ،‬وقد أفاض بالحديث عن مهمته لصلح شأن اللغة العربية‪،‬‬
‫ورتق العلقة المتأزمة بين القوميتين التركية والعربية في تلك الفترة جراء التعصبات التي‬
‫بثتها الجمعيات والحزاب‪ ،‬وترتسم رؤية مأساوية للمام بإزاء التحولت الهادفة إلى تحديث‬
‫البنية التقليدية لمجتمع المبراطورية المحتضّرة‪ ،‬فكل ذلك ترك بصماته على النطباعات التي‬
‫كتبها عن المدينة‪ ،‬ومع أنه شارك أسلفه من الرحالة في الشادة بموقع المدينة‪ ،‬ومحاسنها‬
‫الطبيعية‪ ،‬لكنه أبدى انزعاجا واضحا من الخراب المخيّم على المدينة "لو كانت هذه الدولة التي‬
‫استولت عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنيّة لجعلتها زينة الرض ومثابة المم"‪.‬‬
‫لم يقع بصر المام‪ ،‬وهو يطوف في أرجاء إسطنبول إل على" المعسكرات من الثكنات‬
‫والمدارس" وإذا ما قورنت بصوفيا‪ ،‬وأثينا‪ ،‬والقاهرة‪ ،‬فهي دون تلك العواصم‪ ،‬فقد كانت ثكنة‬
‫كبيرة يمخرها الجند‪ ،‬وتمنّى على ولة المر أعمارها بموارد المبراطورية‪ ،‬وليس‬
‫"بالستقراض من الجانب بالربا الذي يجعلها تحت سيطرتهم"‪ .‬وواضح أنه مفجوع بما آلت‬
‫إليه المدينة التي كانت قِبلة الدنيا في الماضي‪ ،‬فالصورة التي ارتسمت لها في عينيه تختلف‬
‫تماما عن الصورتين اللتين رأيناهما في عيون هارون بن يحيى وابن بطوطة‪ ،‬وكان الزمن‬
‫كفيل بتحسين وضع القسطنطينية إلى أحسن ما كنت عليه من حسن سابق‪ ،‬لكن الواقع جعلها‬

‫‪21‬‬
‫تتراجع إلى الخلف‪ ،‬فقد كانت قلبا مكلوما لمبراطورية آفلة‪ ،‬وأول ما ظهرت عليها مظاهر‬
‫الخراب‪.‬‬
‫ثم انتقل إلى وصف" العمران المعنوي" قاصدا بذلك" العلم والدب" فوجدهما فيها أفضل‬
‫مما في مصر وسوريا‪ ،‬لن" التعليم فيها أعمّ وأشمل‪ ،‬وتربية النساء أسمى وأنبل" ولحظ أن"‬
‫الداب السلمية" مازالت نافذة‪ ،‬فمعظم النساء محتجبات في بيوتهن‪ ،‬أو ساترات لجسادهن‪،‬‬
‫ول يكاد يظهر منهن ما يخدش الحياء العالم إل ما ندر‪ .‬وجملة القول فإن "آدابهن حسنة"‪.‬‬
‫وهذا حديث يشمل فقط أولئك النسوة الخذات النهج السلمي طريقا للتربية‪ ،‬لكن هنالك فئة‬
‫أخرى من المتفرنجات اللواتي أخذن بالتربية الغربية‪ ،‬وقد استأثرت هذه الفئة بكل بضروب‬
‫الذمّ والنتقاص منه؛ لن الحداثة الفرنجية‪ ،‬هي "الخطر الكبر الذي ينذر البيوت السلمية‬
‫بالفساد في هذا البلد وغيره من البلد"‪.‬‬
‫وكان هذا مدخل للتذمّر مما كان يقع من صراع ثقافي وسياسي في أوساط المجتمع بين‬
‫مناصري الخلفة التقليدية‪ ،‬ومناصري الجمعيات الجديدة الداعية للتحديث‪ ،‬كالتحاد والترقي‪،‬‬
‫وجمعية تركيا الفتاة‪ ،‬وجميعها كانت تدعو إلى الخصوصيات العرقية واللغوية والدينية‪،‬‬
‫ومحاكاة النموذج الغربي‪ ،‬وقد اختار مثال لذلك شخص" أحمد رضا بك" رئيس مجلس‬
‫المبعوثان(=مجلس النواب) فقد سعى إلى الخذ بالحداثة الغربية‪ ،‬وبخاصة مفاهيم الثورة‬
‫الفرنسية‪ ،‬وحاول تطبيقها في المجتمع العثماني التقليدي‪ ،‬فنال كثيرا من النقد‪ ،‬ومن ذلك‬
‫محاولته نقل التجربة الغربية في مجال حرية المرأة‪ ،‬فذلك من المحظور عند المام‪ ،‬وإذا ما‬
‫فشت تلك الحرية" فبشّر بيوت هذا البلد بالخراب المعنوي والفساد الذي ل يفوقه فساد" ذلك" أن‬
‫الدين أساس التربية"‪ .‬وينبغي أن كون" العناية به فوق العناية بالعلم"‪.‬‬
‫وقد لفت انتباه المام التباينُ الطبقي والثقافي والعمراني بين أحياء المدينة‪ ،‬ولحظ‬
‫الختلف في "العادات ونظام المعيشة وحالة العمران" مع أنه ل يفصل بين أطرافها سوى‬
‫القرن الذهبي‪ ،‬وخلصة ما يرتسم في عيني المام أن المدينة تتهددها القيم الغربية من جهة‪،‬‬
‫وهذا هو الخراب المعنوي‪ ،‬وتعاني من إهمال وتراجع في البناء‪ ،‬وهذا هو الخراب العمراني‪،‬‬
‫ولم يهمل أثر الستبداد في ثلم الخلقيات العامة من كذب ورياء‪ ،‬وتقلّب المواقف‪ ،‬وعدم‬
‫التزام بالمواعيد‪.‬‬
‫‪ .5‬خاتمة‪.‬‬
‫ارتسمت ثلث صور لسطنبول في أعين الرحالة العرب خلل ألف سنة‪ .‬أسّستْ‬
‫الصورة الولى لمعظم التخيلت الجغرافية عنها في القرون الوسطى‪ ،‬وفيها رسّخ هارون بن‬
‫يحيى نزوعا يحتفي بالدهشة‪ ،‬ويغرق في التفاصيل‪ ،‬فهو يتحدّث عن حاضرة دار الحرب حيث‬
‫ل مثيل لها في دار السلم‪ ،‬ومع أن عيني هارون كانتا ذكيتين وحساستين فإنهما مرّتا على‬

‫‪22‬‬
‫الطبقة الخارجية لسطنبول البيزنطية‪ ،‬ولم تتوغل في أسرارها الدينية والثقافية‪ .‬من الصحيح‬
‫أنه وصف المظاهر الدينية لكنه عجز عن تفسيرها‪ ،‬وتأويلها‪.‬‬
‫وجاءت الصورة التي رسمها ابن بطوطة لتعمّق الصورة الولى لكنها نجحت في فك‬
‫بعض الشفرات الدينية والثقافية‪ ،‬فقدّمت صورة بانورامية لما يدور في قلب المدينة‪ ،‬وبخاصة‬
‫القصر المبراطوري‪ ،‬والكنيسة الكبرى‪ ،‬والديرة المرتبطة بها‪ ،‬ثم السواق‪ ،‬ولم يهمل‬
‫التقاليد‪ ،‬والعلقات الجتماعية‪ ،‬والتراتبات السياسية والدينية للبابا والمبراطور وسواهم‪ ،‬وبكل‬
‫ذلك تحرّكت الصورة القديمة‪ ،‬واكتست بالحياة‪ ،‬وفي قلبها تحرّك ابن بطوطة محميا من‬
‫المبراطور‪ ،‬فلم تعد المدينة مشهدا جامدا يصفه الرحالة إنما أصبحت مكانا يتجول فيه‪،‬‬
‫ويلمس بثقافته السلمية معالمه كافة‪.‬‬
‫ثم ظهرت الصورة الخيرة التي رسمها رجل دين مشدود إلى تفسير ديني للتاريخ‪ ،‬فلم‬
‫يرَ في حاضرة السلطنة إل طلل آيل للخراب بفعل إهمال ولة المر لها‪ ،‬وتسلّل مظاهر‬
‫الحداثة الغربية إلى أهلها‪ ،‬فرآها في أفولها العمراني والثقافي‪ .‬من الصحيح إنها كانت قلب دار‬
‫السلم‪ ،‬لكن دار السلم نفسها كانت قد بدأت بالتصدّع‪ ،‬وقد طال التصدّع قلبها‪ .‬ومن‬
‫المفارقة أن تكون إسطنبول مثار إعجاب هارون بن يحيى وابن بطوطة وهي عاصمة لدار‬
‫الحرب‪ ،‬فيما لم تكن‪ ،‬وهي حاضرة دار السلم‪ ،‬سوى موضوع للحزن والرثاء من طرف‬
‫المام محمد رشيد رضا‪.‬‬
‫الهوامش‬
‫‪ .1‬اغناطيوس يوليانوفتش كراتشوفسكي‪ ،‬تاريخ الدب الجغرافي العربي‪ ،‬نقله إلى العربية صلح الدين‬
‫عثمان هاشم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪135 :1 ،‬‬
‫‪ .2‬محمد عبد المنعم الحميري‪ ،‬الروض المعطار في خبر القطار‪ ،‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬بيروت‪ ،‬مؤسسة‬
‫ناصر للثقافة‪ ،1980 ،‬ص ‪482-481‬‬
‫‪ .3‬انظر نص الرحلة كامل في كتاب ابن رسته‪ ،‬العلق النفيسة‪ ،‬ليدن‪ ،‬بريل‪1893 ،‬‬
‫‪ .4‬انظر النص كامل في كتاب رحلة ابن بطوطة" تحفة النظّار في غرائب المصار وعجائب‬
‫السفار" تحقيق عبد الهادي التازي‪ ،‬المغرب‪1997 ،‬‬
‫‪ .5‬رحلت المام محمد رشيد رضا‪ ،‬جمع وتحقيق يوسف إيبش‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر‪ ،1971 ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ .6‬انظر نص الرحلة كامل في كتاب "رحلت المام محمد رشيد رضا"‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫* باحث‪ ،‬وأستاذ جامعي من العراق‪ ،‬حاصل على جائزة شومان للعلوم النسانية عام ‪ 1997‬متخصص في‬
‫الدراسات السردية والثقافية‪ .‬شارك في موسوعة ‪ Cambridge history of Arabic literature‬وفي‬
‫عشرات المؤتمرات‪ ،‬والملتقيات النقدية والفكرية‪ .‬عمل أستاذا للدراسات الدبية في عدد من الجامعات‬
‫العراقية‪ ،‬والليبية‪ ،‬والقطرية‪.‬‬
‫من مؤلفاته‪:‬‬
‫‪ .1‬المطابقة والختلف‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪2004 ،‬‬
‫‪ .2‬المركزية الغربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪1997 ،‬وط ‪ 2‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر‪2003،‬‬
‫‪ .3‬المركزية السلمية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪2001 ،‬‬
‫‪ .4‬الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪1999 ،‬‬
‫‪ .5‬التلقي والسياقات الثقافية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪ ،2000،‬وط ‪ 2‬الرياض‪ ،‬دار اليمامة‪،2001،‬‬
‫وط ‪ 3‬الجزائر‪ ،‬منشورات الختلف‪2005 ،‬‬
‫‪ .6‬السردية العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،1992 ،‬وط ‪ ،2‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر ‪2000‬‬
‫‪ .7‬السردية العربية الحديثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪2003 ،‬‬
‫‪ .8‬المتخيّل السردي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪1990 ،‬‬
‫‪ .9‬معرفة الخر‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،1990،‬ط ‪1996 ،2‬‬
‫‪ .10‬التفكيك‪ :‬الصول والمقولت‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار عيون‪1990،‬‬
‫‪ .11‬تحليل النصوص الدبية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب الجديد المتحدة‪1999 ،‬‬
‫‪ .12‬النثر العربي القديم‪ ،‬الدوحة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة‪2002 ،‬‬
‫‪ .13‬الرواية والتاريخ‪ ،‬الدوحة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة‪2006 ،‬‬
‫‪ .14‬الرواية العربية‪ :‬البنية السردية والدللية‪ ،‬الرياض‪ ،‬دار اليمامة‪2007 ،‬‬
‫‪ .15‬موسوعة السرد العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ 2005 ،‬ط ‪2008 ،2‬‬
‫‪ .16‬عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين‪ ،‬أبوظبي‪ ،‬المجمع الثقافي‪ ،2001 ،‬وط ‪ ،2‬بيروت‪ ،‬المؤسسة‬
‫العربية للدراسات والنشر‪2008 ،‬‬

‫‪24‬‬

Você também pode gostar