Escolar Documentos
Profissional Documentos
Cultura Documentos
د.عبدال إبراهيم*
( العراق)
1
والسياسية والدينية التي مرّت بها .ومن الصعب إحصاء عدد الرحّالة الذين زاروها في حقبتيها
البيزنطية والعثمانية ،ولكن من المؤكد أن تراثا ضخما من المدونات الجغرافية ،وأدب الرحلة،
قد تراكم حول هذه المدينة المركزية التي ظلت مثار اهتمام سائر المبراطوريات الكبرى.
نريد الوقوف على صور اسطنبول في أعين ثلثة من الرحّالة العرب الذين دفعتم ظروف
متباينة لزيارتها ،أولهم هارون بن يحيى الذي أُسر ،واقتيد إلى المدينة في حوالي العقد الخير
من القرن التاسع الميلدي ،وربما يكون قد حدث ذلك في عام 886م أو بعده بسنوات قليلة،
أي في عهد الخليفة العباسي المعتمد على ال الذي حكم بين العوام 892- 870م ،أو
المعتضد بال الذي حكم بين العوام 902 – 893م ويوافق ذلك تقريبا عهدي المبراطور
البيزنطي باسيليوس الول الذي حكم بين العوام 886-867م .ثم ليو السادس في العوام
912-886م ،لكن بعض المحقّقين من أمثال "كراتشوفسكي" رجّح أن يكون ذلك قد وقع في
عام 900م ،واستبعد أن يكون أسر هارون قد حصل في عام ،912فذلك عنده" فرض بعيد
الحتمال"(.)1
أورد ابن رسته المتوفى نحو عام 912م نص رحلة هارون في كتابه "العلق النفيسة"
وبذلك فروايته قريبة جدا من الزمن الذي يفترض بأن هارون بن يحيى قد أسر فيه .ويستبعد
أن يكون التاريخ الخير هو الصحيح ،ففيه توفي ابن رسته نفسه ،ولبد أن تكون رحلة هارون
معروفة قبل ذلك بسنوات تتيح لذلك الجغرافي أن يدرجها في كتابه .وليس من المعروف كيفية
حصول ابن رسته على الرواية التفصيلية التي جاءت على لسان هارون .وبالنظر للجهل
المصاحب لظروف السر ،ومصير السير نفسه ،فل يعرف على وجه التحديد كيف منحت
الفرصة لهارون للتجوال في أنحاء المدينة ووصفها وصف عارف إل على اعتبار أنه قد حرّر
من السر ،ومكث فيها مدة أتاحت له كل ذلك ،إذ سرعان ما أصبحت روايته أصل معتمدا
لكثير من المظان الجغرافية التي أتت على ذكر المدينة فيما بعد ،ويرجّح أنه أول عربي زار
القسطنطينية وقدّم عنها وصفا شامل ،وقد تكشّفت معرفته الجغرافية والدينية والتاريخية
بأحوال المدينة على نحو مثير للتقدير.
أما الرحالة الثاني ،فهو ابن بطوطة(1377-1304م)الذي زار المدينة ،وهو في الثلثين
من عمره ،قادما من جهة القرم بقافلة كبيرة تخص السلطانة(=الخاتون)الرومية "بيلون" زوجة
السلطان المغولي محمد أوزبك خان ،لزيارة أهلها ،ومكث في المدينة ستة وثلثين يوما ،وذلك
في بداية خريف عام 1334م ،وخلل هذه الفترة كان المبراطور هو أندرونيكوس الثالث
الذي حكم بين العوام 1341-1328م ،وقدّم ابن بطوطة وصفا شائقا عن المدينة في رحلته
"تحفة النظّار في غرائب المصار وعجائب السفار" .وثالث هؤلء الرحالة هو المام محمد
رشيد رضا(1935-1865م)الذي زارها في عام 1909بعد سنة من إعادة العمل بالدستور
2
العثماني المعطّل إذ بدأت الحقبة الدستورية ،وقد توجّه المام إلى إسطنبول ،للسعي في إنشاء
معهد إسلمي ،والتوسّط لتحقيق التفاهم بين عنصري السلطنة الكبرين العرب والترك ،فطاف
في أرجاء عاصمة الخلفة ،وكتب عنها في مجلته" المنار" سلسلة انطباعات ظهرت خلل عام
1910م ،ثم جُمعت ،فيما بعد ،ونُشرت في كتاب" رحلت المام محمد رشيد رضا".
انتقينا هذه الرحلت الثلث من بين عدد وافر من نصوص الرحلة العربية لنظهر أن أدب
الرحلة لم يقتصر على رحّالة محترفين كابن بطوطة وابن جبير ،إنما شمل رجال كتبوا
انطباعاتهم في سياق زيارات وأسفار متباينة السباب ،وفي عصور مختلفة .ومن الجدير
بالذكر أن كثيرا من الجغرافيين العرب اعتمدوا على ملحظات الرحّالة في معظم ما أوردوه
عن مدينة إسطنبول من أوصاف فيما بعد ،وأخصّ منهم الحميري في كتابه" الروض المعطار
في خبر القطار"()2الذي أعاد سبك ما تركه السابقون عليه ،فكانت المدونة الكتابية حولها
تنمو ،ويعاد صقلها ،بين عصر وآخر ،دونما يطرأ عليها تغيير كبير.
وبالنظر لهمية نصوص الرحّالة العرب حول إسطنبول ،وتعذّر الحصول عليها إل
بصعوبة ،فقد حرصنا على إيرادها كاملة في تضاعيف هذا البحث الذي يتطلّع إلى تقديم تحليل
مقارن يقوم على تباين رؤية الرحّالة العرب لمدينة إسطنبول/القسطنطينية /الستانة (سوف
نستخدم التسمية التي يتبناها الرحالة أنفسهم) في ضوء مواقفهم الدينية والفكرية ،آخذين في
الحسبان أن الفارق الزمني بين الصورتين الولى والثانية يقارب 450عاما ،وبين الثانية
والثالثة نحو 575سنة ،فخلل أكثر من ألف سنة تعاقب على حكم المدينة عدد كبير من
الباطرة ،والملوك ،والبابوات ،والسلطين ،وعرفت لحظات صعود تاريخي كبير ،ولحظات
أفول وتراجع ،ومع ذلك فقد حافظت على تنوعها الديني والعرقي والثقافي ،وعلى موقعها
الرمزي كونها العروة التي ربطت الشرق بالغرب ،والسلم بالمسيحية .وكانت نقطة التماس
بين المركزيتين السلمية والغربية ،وموضوعا للتنافس بينهما.
.2هارون بن يحيى أسيرا في القسطنطينية.
أورد ابن رسته في مطلع القرن العاشر الميلدي رحلة هارون بن يحيى إلى
القسطنطينية الذي اقتيد إليها أسيرا من بلد الشام ،وحُمل على طريق البحر في المراكب
باتجاه العاصمة البيزنطية ،فساروا ثلثة أيام حتى بلغوا أنطالية ،وهي على ساحل البحر ،ثم
حملوا منها على البريد مسيرة ثلثة أيام في الجبال والودية والمزارع ،حتى انتهي بهم
الرتحال إلى مدينة يقال لها نقية(=إزنيك) وهي مدينة عظيمة بها ناس كثير ،ثم انتهوا بعد
ثلثة أيام إلى مدينة يقال لها سنقرة ،وهي صغيرة في صحراء ملساء .ويكتفى ابن رسته بهذا
القدر الوجيز من التلخيص الواصف لمرور هارون بن يحيى في الناضول ،ثم ينتقل مباشرة
إلى تضمين رحلته بضمير المتكلّم في ثنايا كتاب "العلق النفيسة" .وهي تمثل ملحظات
3
شاهد عيان من الدرجة الولى لمدينة كبيرة أثارت الهتمام في نفس هارون ،مثلما أثارت
الدهشة والعجب.
قال هارون بن يحيى"..ثم خرجنا مشاة ،فمشينا في الصحراء ،ويمنتنا ويسرتنا قرى للروم
حتى انتهينا إلى البحر في مقدار يومين ،ثم ركبنا البحر فسرنا مقدار يوم حتى انتهينا إلى
مدينة قسطنطينية ،وهي مدينة عظيمة اثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا .وفرسخهم على
ما ذكر ميل ونصف .ويحيط البحر مما يلي المشرق منها وغربيّها صحراء يؤخذ منها إلى
الرومية (=مدينة روما) وعليها حصن ،والباب الذي يؤخذ منه إلى الرومية من ذهب وإلى
جانبه ناس من خدمه ،ويسمى باب الذهب .وعلى الباب تماثيل خمسة على مثال الفيلة ،وتمثال
على صورة رجل قائم قد أخذ بزمام تلك الفيلة .ولها باب مما يلي الجزيرة يقال له باب
بيغاس ،موضع يتنزّه الملك إليه ،وهو باب من حديد .وبقرب الكنيسة في وسط المدينة بلط
الملك ،وهو قصر وإلى جانبه موضع يقال له البذرون(= يقصد Hippodromeأي ساحة
الفروسية ،واللعاب العامة ،وتعرف الن بساحة السلطان أحمد) وهو يشبه الميدان يجتمع فيه
البطارقة فيشرف عليهم الملك من قصره في وسط المدينة ،وقد صور في القصر أصنام
مفرغة من صفر على مثال الخيل ،والناس ،والوحوش ،والسباع ،وغير ذلك .وعلى غربي
الميدان مما يلي باب الذهب بابان يسوقون إلى هذين البابين ثمانية من الخيل ،وهناك عجلتان
من ذهب يشدّ كل عجلة على أربعة من الخيل ،ويركب فوق العجلة رجلن قد البسا ثيابا
منسوجة بالذهب ،ويتركها تجري بما نيط إليها من العجل حتى تخرج من تلك البواب فتدور
على تلك الصنام ثلث دورات فأيّها سبق صاحبها ألقى إليه من دار الملك طوق من ذهب
ل من في قسطنطينية يشهدون ذلك الميدان ويبصرون.
ورطل ذهب ،وك ّ
وعلى قصر الملك سور واحد يحيط بجميع القصر ،ودورانه فرسخ .أحد جنباته مما يلي
المغرب متصل بالبحر وله ثلثة أبواب من حديد يقال لحدها باب البيدرون ،والخر باب
المنكنا ،والثالث باب البحر .وأما باب البيدرون فتدخل في دهليز مقدار مائة خطوة في عرض
خمسين خطوة وعلى الجانبين من الدهليز أسرّة موضوعة عليها فرش من ديباج ومضربّات
ووسائد ،وعليها قوم من السودان متنصّرة بأيديهم أترسة ملّبسة ذهبا ،ورماح عليها ذهب .وأما
باب المنكنا فتدخل إلى دهليز طوله مقدار مائتي خطوة في عرض خمسين خطوة مفروش
بالرخام وأسرّة موضوعة في جانبي الدهليز عليها قوم خَزر في أيديهم القسّى ،وفي الدهليز
أربعة حبوس :حبس منها للمسلمين ،وحبس لهل طرسوس ،وحبس للعامّة ،وحبس لصاحب
الشرط .وباب البحر فانّك تدخل في دهليز طوله ثلثمائة خطوة في عرض خمسين خطوة ،وهو
مفروش بآجر أحمر .وفي الدهليز أسرّة يمنة ويسرة عليها فرش متخذة ،وعليها قوم أتراك
بأيديهم القسّى والترسة ،فتمضي في الدهليز حتى تنتهي إلى فضاء مقدار ثلثمائة خطوة ثم
4
تنتهي إلى الستر المعلّق على الباب الذي يفضي إلى الدار ،ويسرة الداخل كنيسة الملك (=
يرجّح أنه يقصد بها آيا صوفيا) ولها عشرة أبواب أربعة منها ذهب وستة فضة ،وفي
المقصورة التي يقف عليها الملك موضع أربع أذرع في أربع أذرع مرصّع ذلك الموضع باّلدّر
والياقوت ،وكذلك مسنده الذي يستند إليه مرصّع بالدر والياقوت.
وعلى باب المذبح أربعة أعمدة من رخام منقورة من قطعة واحدة ،وطول المذبح الذي
يصلّى عليه القُسّ ستة أشبار في عرض ستة أشبار ،وهو قطعة خشب عود قمارىّ مرصّع
بالدرّ والياقوت يقف عليه قُسّ الملك وسائر سقوف الكنيسة كلّها آزاج معمولة من الذهب
والفضة .ولهذه الكنيسة أربعة صحون كل صحن منها مائتا خطوة في عرض مائة خطوة،
وأما الصحن الشرقي ففيه جرن محفور من رخام طوله عشر أذرع في عرض مثلها ،وقد
نصب هذا الجرن على رأس عمود من رخام ارتفاعه من الرض أربع أذرع قد عقد عليه قبّة
من رصاص ،وأعلى القبّة قبّة من فضة تحمل هذه القبّة اثنا عشر عمودا طول كل عمود أربع
أذرع أحد أعمدتها على رأسه صورة بازى ،وعلى الثاني صورة حمل ،وعلى الثالث صورة
ثور ،وعلى الرابع تمثال ديك ،وعلى الخامس تمثال أسد ،وعلى السادس تمثال لبوة ،وعلى
السابع تمثال ذئب ،وعلى الثامن تمثال قبج ،وعلى التاسع تمثال طاوس ،وعلى العاشر تمثال
فرس ،وعلى الحادي عشر تمثال فيل ،وعلى الثاني عشر تمثال ملك.
وبالقرب من هذه القبّة في هذا الصحن على مائتي خطوة صهريج قد أجرى منه الماء إلى
تلك التماثيل على رؤوس الساطين ،فإذا كان يوم عيدهم ملء ذلك الصهريج بمقدار عشرة
آلف دورق نبيذ ،وألف دورق عسل أبيض يطرح على ذلك الشراب ،فيطيّب بالسنبل والقرنفل
والدارصيني مقدار حمل ،ويغطّى ذلك الصهريج إلّ شيئا منه بشيء ،فإذا خرج الملك إلى
خارج ودخل الكنيسة وقع عينه على تلك الصور وما ينبع من أفواهها وآذانها من ذلك الشراب
فيجتمع في الجرن حتى يمتلئ ،فيسقى كلّ من خرج معه من حشمه إلى العيد كل واحد شربة،
فإذا رفعت الستر ودخلت الدار فهو صحن عظيم طوله أربع مائة خطوة في مثلها مفروش
بالرخام الخضر مزوّق الحيطان بالفسيفساء وألوان التزاويق وعلى اليمنى من داخل الدار
بيت مال الملك ،وفي جوفه تمثال فرس قائم عليه فارس قد اتخذت عيناه من ياقوتتين
حمراوين ،وعلى شمال الداخل مجلس يكون طوله مائتي خطوة في عرض خمسين خطوة،
وفي المجلس مائدة من خلنج ومائدة من عاج.
وفي الصدر من المجلس مائدة من ذهب ،فإذا انقضى العيد وخرج من الكنيسة جاء الملك
إلى هذا المجلس فقعد في الصدر على مائدة الذهب ،وهو يوم الميلد ،ويؤمر فيؤتى بأسارى
المسلمين فيقعدوا على تلك الموائد ،وتحمل إليه عند قعوده في الصدر أربع موائد من ذهب
تحـمل كـل مائدة على عجلة .يقال إن إحدى تلك الموائد كانت لسليمان ابن داود عليه السلم
5
مرصّعة بالدّر والياقوت ،والثانية لداود عليه السلم مرصّعة أيضا ،والثالثة مائدة قارون،
والرابعة مائدة قسطنطين الملك ،فتوضع بين يديه ول يؤكل عليها إنما تترك ما دام الملك على
مائدته ،فإذا قام رفعت ثم يؤتى بالمسلمين وعلى تلك الموائد من الحارّ والبارد أمر عظيم ،ثم
ينادى منادى الملك فيقول :وحياة رأس الملك ،ما في هذه الطعمة شيء من لحم خنزير،
وينقل إليهم تلك الطعمة في صحاف الذهب والفضة ,ثم يؤتى بشيء يقال له الرقنا ،وهو
شيء متّخذ من الخشب المربع على صنعة معصرة ،وتغشى تلك المعصرة بأدم وثيق ،ثم
يجعل فيه ستون أنبوبة من صفر رؤوسها إلى أنصافها إلى فوق قد غشيت تلك النابيب
بالذهب فوق الدم حتى ل يبين منها إل اليسير على تقارب أقدارها واحدة أطول من الخرى.
وإلى جانب هذا الشيء المربع ثقب يجعل فيه منفخ ككور الحدادين ،ويؤتى بثلثة صلبان
فيجعل اثنان منها في طرفيه وواحد في الوسط ،ثم يؤتى برجلين ينفخان في ذلك المنفخ ،ويقوم
الستاذ فيحسب على تلك النابيب فيتكلم كل أنبوبة بحالها على حسب ما يحسب عليه من
الثناء على الملك ،والقوم كلهم جلوس على الموائد ويدخل عليه عشرون رجل بأيديهم
الحلباقات والحلباق الصنج يضربون فيها ما داموا يأكلون ويطعمون على هذه الصفة اثني
عشر يوما ،فإذا كان آخر هذه اليام يعطى كل أسير من المسلمين دينارين وثلثة دراهم ،ثم
يقوم الملك ويخرج من باب البيدرون.
خروج الملك إلى الكنيسة العظمى التي للعامة(= رجّح بعض الباحثين أن المقصود بها
دير إستديوس الذي بني في نحو منتصف القرن الخامس الميلدي) يأمر بأن يفرش له في
طريقه من باب القصر إلى الكنيسة التي للعامة في وسط المدينة حصر ويطرح فوقها رياحين
وخضرة ،ويزيّن الحائط يمنة ويسرة من ممره بالديباج ،ثم يخرج بين يديه عشرة آلف شيخ
عليهم ديباج أحمر مسبلة شعورهم إلى أكتافهم ليس عليهم برانس ،ثم يجيء خلفهم عشرة آلف
شاب عليهم ديباج أبيض مشاة كلهم ،ثم يجيء عشرة آلف غلم عليهم ديباج أخضر ،ثم
يجيء عشرة آلف خادم عليهم ديباج لون السماء في أيديهم الطبرزينات الملبسة ذهبا ،ثم
يجيء بعدهم خمسة آلف خصي أواسط عليهم ملحم خراساني أبيض بأيديهم صلبان ذهب ،ثم
يجيء بعدهم عشرة آلف غلم أتراك وخزر عليهم صدر مسيّرة بأيديهم رماح وأترسة ملبسة
كلها ذهبا ،ثم يجيء مائة بطريق من الكبار عليهم ثياب الديباج الملّون بأيديهم مجامر من ذهب
يبخرون بالعود القمارى ،ثم يجيء اثنا عشر بطريقا من رؤساء البطارقة عليهم ثياب منسوجة
بالذهب في يد كل واحد قضيب من ذهب ،ثم يجيء مائة غلم عليهم ثياب مشهّرة مرصّعة
باللؤلؤ يحملون تابوتا من ذهب فيه كسوة الملك لصلته ،ثم يجيء رجل بين يديه يقال له
الرحوم ،يسكّت الناس ،ويقول :اسكتوا.
6
ثم يجيء رجل شيخ وبيده طشت وإبريق من ذهب مرصّعان بالدرّ والياقوت ،ثم يقبل
الملك وعليه ثياب الكسيمون ،وهي ثياب من إبريسم منسوج بالجوهر ،وعلى رأسه تاج،
وعليه خفّان أحدهما أسود والخر أحمر ،وخلفه الوزير ،وبيد الملك حقّ من ذهب فيه تراب،
وهو راجل كلما مشى خطوتين يقول الوزير بلسانهم "من رمونت إبيابطرا" وتفسيره "أذكروا
الموت" .فإذا قال له ذلك ،وقف الملك ،وفتح الحقّ ،ونظر إلى التراب ،وقبّله ،وبكى ،فيسير
كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة ،فيقدّم الرجل الطشت والبريق فيغسل الملك يده ،ويقول
لوزيره "إنّي بريء من دماء الناس كلهم؛ لن ال ل يسألني عن دمائهم ،وقد جعلتها في
رقبتك" .ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ،ويأخذ دواة بلطس ،وهي دواة الرجل الذي تبرّأ
من دم المسيح عليه السلم ،ويجعلها في رقبة الوزير ،ويقول له "دن بالحق كما دان بلطس
بالحق" .ويدور به على أسواق قسطنطينية ،فينادون به "دن بالحق كما قلّدك الملك أمور
الناس".
ثم يأمر الملك بإدخال أساري المسلمين الكنيسة ،فينظرون إلى تلك الزينة والملك،
فيصيحون "أطال ال بقاء الملك سنين كثيرة" ثلث مرات .ثم يؤمر فيخلع عليهم ،ويساق خلفه
ثلث جنائب شهب عليها سروج ذهب مرصّعة بالدرّ والياقوت ،وجلل ديباج مرصّعة أيضا
بمثل ذلك ل يركبها فيدخلونها إلى الكنيسة ،ولها بها لجام معلّق ،يقولون إنه متى أخذت الدابّة
اللّجام في فمها ظفرنا ببلد السلم ،فتجيء الدابّة ،فتشم اللجام ،فتراجع إلى خلفها ،ولم تتقدّم
إلى اللجام .ويقال إن هذه الدوابّ من نسل دابّة كانت لوسطاط ،ثم ينصرف الملك من الكنيسة
إلى قصره.
وفي غربي الكنيسة ،على عشرة خطى ،عمود يكون طوله مقدار مائة ذراع ،وهو
مركّب عمود على عمود قد شبّك العمود بسلسل من فضّة على رأس العمود مائدة من رخام
مربّعة أربع أذرع في أربع أذرع ،وفوقها قبر معمول من رخام فيه أسطليانس الذي بنى هذه
الكنيسة ،وفوق القبر تمثال فرس من صفر ،وفوق الفرس صورة أسطليانس وعلى رأسه تاج
من ذهب مرصّع بالدرّ والياقوت(= ربما يقصد به تمثال المبراطور تيودوسيوس) .وذكر أنه
تاج هذا الملك ،ويده اليمنى قائمة كأنه يدعو الناس إلى قسطنطينية .وعلى الباب الغربي من
الكنيسة مجلس فيه أربعة وعشرون بابا صغارا ،كل باب شبر في شبر معمولة على ساعات
الليل والنهار؛ فكلما انقضت ساعة انفتحت منها باب من ذات نفسها ،وإذا انغلقت انغلقت من
ذات نفسها .وذكروا أنه اتخذ ذلك بلونيوس ،وذُكر أن خيلهم معلّمة ل تبرح من مكانها ،ول
يحتاج إلى من يمسكها إذا نزل عنها ال ُقوّاد ،ول تصيح ول تجلب ،إنما يقال لها شطه فتقف
كذلك إلى أن يخرج صاحبها من عند الملك.
7
قال(=هارون بن يحيى) فسألت بعض الناس عن أمرها ،فذهبوا بي إلى ثلثة تماثيل من
صفر على هيئة الفرس منصوبة على باب الملك عملها بلونيوس الحكيم طلسما للدواب أل
تصهل ول تشغب بعضها على بعض .وعلى باب الملك أيضا أربع حيات معمولة من صفر
أذنابها في أفواهها طلسما للحيات أل تضر ،يقصد الصبيّ إلى حية فيأخذها فل تضره .ومما
يلي باب الذهب من المدينة قبّة قنطرة معقودة في وسط سوق المدينة فيها صنمان واحد يشير
كأنه يقول بيديه هاته ،والخر يشير بيده كأنه يقول اصبر ساعة ،وهما طلسمان فيؤتى
بالَسارَى فيوقفون بين هذين الصنمين ينتظر بهم الفرج ،ويذهب رسول يعلم الملك ذلك فإن
رجع الرسول ،وهم وقوف ،ذهب بهم إلى الحبس ،وإن وافاهم الرسول ،وقد جوّز بهم
الصنمين ،قتلوا ولم يبق منهم على أحد .ولقسطنطينية قناة ماء يدخل إليها من بلد يقال له بلغر،
يجري إليها هذا النهر من مسيرة عشرين يوما ،فينقسم إذا دخل المدينة ثلثة أثلث ،فثلث
يذهب إلى دار الملك ،وثلث يذهب إلى حبوس المسلمين ،والثلث الثالث يذهب إلى حمامات
البطارقة ،وسائر أهل المدينة فإنهم يشربون الماء الذي بين العذب والمالح .وأهل بلغر
يحاربون الروم ،والروم تحاربهم"(.)3
من الصعب التحقّق فيما إذا كان نص الرحلة منسوبا بكامله إلى هارون بن يحيى ،ولكن
بالمقارنة مع الدبيات الجغرافية التي ظهرت في تلك الحقبة ،فل يستبعد أن ابن رسته قد تدخّل
في صوغ النص بما يجعله محافظا على أسلوب الدب الجغرافي الذي كان شائعا في تلك
الحقبة وما تلها ،وفيه تتكرر لوازم أسلوبية ومعنوية ،وتظهر الولى في الولع بالطوال
والمقاييس ،والنهل من ذخيرة لفظية وصفية تلمس مظاهر الشياء ول تغوص فيها ،فضل
عن التفاصيل الدقيقة التي تكشف مبالغة ل تخفى ،ول يتاح لحد وصفها بسهولة ،منها مثل
معرفة لغة الرومان ،أو فهم محاوراتهم فيها ،وتتجلى المعنوية في إسقاط تصورات إسلمية
على كافة الشكال ،والتماثيل ،والرسومات ،باعتبارها أصناما وطلسم ،فالسرد الوصفي يقدم
مشهدا شبه ثابت للقصور ،والكنائس ،والسوار ،والبوابات ،والتماثيل ،وحينما يظهر الملك في
المشهد تتحرك العناصر الخرى ،من حرس ،وقسوس ،ورهبان ،وأتباع ،وينتهي المشهد
بطقس ديني كرنفالي.
والحال هذه ،فإذا أخذنا في الحسبان الدقة في كل ذلك ،فيلزم أن تكون الفرصة قد أتيحت
لهارون بن يحيى في أن يخوض التجارب التي ذكرها كاملة ،ومنها تجربة السر ،وزيارة
الكنيسة الكبرى ،ومعرفة اللغة ،والتجوال في الطرقات ،والتأمل في التفاصيل الخاصة بالبعاد
والطوال والرتفاعات ،وأعداد الحرس والرهبان ،ول يتأتّى كل ذلك لسير ،إل إذا كان قد
تحرّر من قيوده ،وتخطّى تلك التجربة التي تحدّ من الحركة ،فتمكّّن من القتراب إلى عالم
المدينة بكل ما فيه أحداث ووقائع ،إذ بدأ بوصف أسوارها ،وبواباتها ،والتماثيل الرابضة في
8
طرقاتها ،وصف عارف ،ثم انتقل بأن حدّد مكان البلط الملكي ،فذكر بأنه جوار الكنيسة
الكبرى .وشغل بوصف بواباته ،وحراسه من أجناس مختلفة كالسودان والخزر والترك ،وهذا
قاده إلى ذكر سجون السرى ،ومعتقلت السجناء ،وكل منها يختص بجنس ،ويرجّح أنه استفاد
من تجربته في السر ،ولم ينس أن يعرّج على العاب الفروسية التي تقام في قلب المدينة،
وانتهى بوصف مسهب للكنيسة الكبرى فعرض للطقوس الدينية ،والمآدب المبراطورية ،ثم
خروج الملك إلى كنيسة العامة لرعاية المراسيم الدينية ،والشراف على الوعظ ،والدعوة إلى
كبح الشهوات والملذات ،والتصريح بالتبتل ،ونشر المحبة .جاء كل ذلك بحديث يمزج بين
الوصف والسرد ،فهو يقدّم المعلومة لكنه يدرجها في سياق له صلة بالمناسبة .وسرعان ما
تتقصّى عين الراوي التفاصيل الدقيقة كافة ،فكأنه في موقع الحدث شاهدا مباشرا ،ينقل كل ما
يرى لمستمعين في دار السلم ،فلم يغب عنه أي شيء من تلك اللوحة الشاملة .على أن
أسلوب السرد كان رفيعا في تقصّياته ،وتدقيقاته ،وحرصه على إيراد المشهد كامل .ولعلّ
فرادة هذا النص تكمن في ريادته المبكرة التي رسّخت طريقة بارعة للوصف في أدب الرحلة.
أرست هذه الرحلة المنسوبة إلى هارون بن يحيى تقاليد الوصف اللحقة للقسطنطينية عند
معظم الجغرافيين العرب ،وتتضح فيها رغبة معلنة لها صلة بإثارة العجب والدهشة ،وتنضيد
المعلومات الجغرافية ،ويظهر فيها انتماء رحّالتنا إلى (عالم القرون الوسطى) بكل معنى
الكلمة ،إذ قدم من دار السلم حيث تتبوأ كلمة ال المكانة السمى ،إلى دار الكفر حيث الوثنية
والضلل ،فعجز عن فكّ الشفرات الدينية لليقونات ،والتماثيل الخاصة بالقديسين ،وبالبابوات،
والباطرة ،والطقوس الدينية ،ناهيك عن الشكال الفنية الجمالية المستلهمة من الحقبة
الرومانية ،بما فيها من تماثيل تنطوي على دللت رمزية ،أو وقائع تاريخية ،أو تخص
شخصيات مرموقة من فرسان ،وملوك ،وأباطرة ،وقديسين ،فهذه المنطقة مبهمة عند المسلم
آنذاك؛ لنه يجهل المرجعية الثقافية لذلك العالم المتشابك برموزه ،فيجمل القول بأنها أصنام
وطلسمات .ولم يلبث أن كرّس هذا السلوب عند سائر الجغرافيين فيما بعد حيثما دار الحديث
عن المدن الكبرى في دار الحرب.
.3تجوال ابن بطوطة في أرجاء القسطنطينية.
صدق ابن جُزي حينما وصف ابن بطوطة بأنه "السائح الثقة الصدوق ،جوّاب الرض،
ومخترق القاليم بالطول والعرض" وأنه "طاف الرض معتبرا ،وطوى المصار مختبرا،
سيَر العرب والعجم" وهو الذي "طوى المشارق إلى مطلع بدرها
وباحث فرق المم ،وسَبر ِ
بالمغرب" .إنه ذلك الرّحول المسكون بهواجس التجوال ،الذي سابق الشمس في إشراقها ،وهي
تزيح عن العالم غطاء الظلم ،فل غرابة أن يُسمّى "شمس الدين" وهو يستكشف بإصراره
9
العجيب بلدا متعددة العراق والديان والثقافات ،ثم يستعيد كل ذلك في رحلة باهرة ،ومدوّنة
كبيرة تؤرخ للرغبة الدائمة في البحث والتعلّم.
ومعلوم أن ابن جزي هو مدوّن رحلة ابن بطوطة ،وفي ركن بأقصى غرب دار السلم
جلس الرحّالة يعيد بناء العالم ،بإسراف واضح في السرد ،ليحقق ذاته الخرى التي ل شاهد
على مغامرتها سواه ،فبالسرد المتدافع ،والغزير ،أكد هويته الشخصية والثقافية ،وهو يطوف
في مشارق الرض ،ويمخر ديار الحرب ،إذ لم يرُق له أن يمكث في مكان بعينه ،وما التمس
ي في
العذر لنفسه في الستيطان بأرض ما ،ولطالما أثار الدهشة في إصراره على المض ّ
رحلته أيّا ما كانت النتائج ،وفي غمار كل ذلك شهد كثيرا من الفروقات الثقافية والدينية عند
المم .وتعدّ رحلته الشمل بين الرحلت العربية ،فقد غطت كثيرا من أرجاء العالم القديم برّا
وبحرا.
ينبغي أن يستأثر ابن بطوطة بالهتمام الول فيما يخص مرويّات الرتحال العربية ،فقد
اخترق العوالم الثلثة المعروفة في القرون الوسطى من دون أن يحجم عن طقوسه الدينية
والحياتية والفكرية والجتماعية ،وهي :دار السلم التي لمس تضاريسها كاملة من الغرب إلى
الشرق ،ومن الجنوب إلى الشمال ،وتجوّل فيها ذهابا وعودة ،ودار الحرب التي بلغ أبعد نقطة
فيها ،وهي الشرق القصى للصين ،وبلد الخطا ،بما في ذلك الهند وكل البلد المجاورة لها
من الشرق ،فضل عن القسطنطينية حاضرة المبراطورية البيزنطية ،وفي البحر عبر سيلن،
وجنوب شرقي آسيا بكاملها ،ثم دار الصلح أو دار العهد .وحيثما أقام كان يتوافق مع النسيج
الثقافي العامّ ،ول يمكن القول بأن التقاليد والعراف الدينية قد منعته من الندماج ،أو حالت
دون ذلك ،فقد اتصف بقدرة واضحة على التكيّف ،وتخطّي الحبسة الثقافية-العقائدية المهيمنة
آنذاك.
وكانت رحلته أوسع من رحلت سلفه ماركو بولو الذي سبقه إلى أصقاع الشرق بحوالي
ستين سنة .وكما قال" بوكهارت" في وقت مبكر من القرن التاسع عشر فإن ابن بطوطة أعظم
رحّالة دوّن ملحظاته عن العصر الوسيط ،وفضّله "كراتشكوفسكي" على "ماركو بولو" حينما
قرر أن إحساسه العميق بالبعد الحضاري للشرق كان أعمق بكثير ممّا لدى سلفه الطلياني.
وفي وقت كان فيه "ماركو بولو" قد شُغل بالمتاجرة التي استأثرت على ما سواها باهتمامه،
فإن ابن بطوطة شغل بكل شيء ،وتعدّ رحلته ،طبقا للمعايير السائدة في ثقافة القرون الوسطى،
رحلة في طلب العلم بالمعنى الواسع للكلمة ،إذ تتبع الولياء والفقهاء حيثما كانوا ،فما أن
يطرق سمعه اسم أحدهم إلّ ويغيّر مساره إليه من أجل اللقاء والتبرك به ،ومع أنه تزهّد،
ووزع ثروته الكبيرة على الفقراء ،لكنه بالجمال عاش حياة متجدّدة وحيوية ،أنعشها بالزواج
في كل بلد زاره تقريبا .وكان قادرا على التعايش والتفاعل بصورة ندر مثيلها في ذلك الوقت.
10
لم ينظر ابن بطوطة لكثير من المم باعتبارها كتل صمّاءَ ل تاريخ لها ،ول هويات ،إنما
كان الختلف ينعش مخيلته وذاكرته على حدّ سواء باستثناء الطقوس الوثنية التي ظل يتحفّظ
عليها .وكان حريصا على تتبع الشياء حيثما كانت ،وكثيرا ما كان ذلك يكلفه جهدا ومشقّة،
ويعرّضه لخطار حقيقية .وبسبب كل هذا جاءت رحلته نصّا ثقافيّا متعدد المستويات ،فهي
مدوّنة شديدة الثراء في كشف العالم القديم ،ويمكن اعتبارها دون تحفّظ أحد المصادر الكبرى
عن أحوال العالم في ذلك العصر .ليس لنها السجل الذي ضم بين دفتيه صورة الحداث،
والفكار ،والصراعات ،وتقاليد الشعوب ،والعقائد الدينية والدنيوية ،فحسب ،وإنما لنها لم
تأخذ مسارا واحدا في الوصف والحكم ،فهي تضع معا المور في تناقضاتها وتعارضاتها،
وتقدح وتمدح ،لكن استنادا إلى أدلة تتصل برؤية ابن بطوطة ،ومعتقده ،والنسق الثقافي الذي
يغذّي شخصيته ،وأهم ما كان يثير سخطه الطقوس الوثنية التي يلحظها بحنق معلن في دار
الحرب.
انطلق ابن بطوطة باتجاه القسطنطينية من جهة البحر السود في العاشر من شوال(=
734هـ الموافق 14حزيران 1334م) في صحبة السلطانة بيلون ،وهي الزوجة الرومية
للسلطان محمد أزوبك خان ،وهو ملك مغولي من القبيلة الذهبية توفي في عام 1342م .كانت
بيلون تروم زيارة أهلها لوضع مولودها بينهم ،وقد حافظت سرا على نصرانيتها ،وخططت
للبقاء في القسطنطينية ،فلم تعد إلى زوجها عند انتهاء الزيارة.
رافق ابن بطوطة قافلة ضخمة تمثّل موكب السلطانة المتجه إلى القسطنطينية "كان عسكر
الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين ،والباقون من
الترك .وكان معها من الجواري نحو مائتين ،وأكثرهن روميات .وكان لها من العربات نحو
أربعمائة عربة ،ونحو ألفي فرس لجرّها وللركوب ونحو ثلثمائة من البقر ومائتين من الجمال
لجرها ،وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ،ومن الهنديين مثلهم .وقائدهم الكبر يسمى
بسنبل الهندي ،وقائد الروميين يسمى بميخائيل .ويقول له التراك لؤلؤ ،وهو من الشجعان
الكبار .وتركت جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع
الحمل".
وبعد رحلة طويلة حرص ابن بطوطة على وصفها بالتفصيل ،وصلوا جميعا "سرداق"
وهي مدينة "سولديا" الحالية في جزيرة القرم ،وكانت "على ساحل البحر ومرساها من أعظم
المراسي وأحسنها" .ثم توجهوا مدينة "بابا سلطوق" وكان "بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية
عشر يوما في برية غير معمورة منها ثمانية أيام ل ماء بها ،يتزود لها الماء ويحمل في
الروايا والقرب على العربات" .وفي الطريق كانت السلطانة تكرم ابن بطوطة "متى أتيتها
تبعث إلي بالفرسين والثلثة وبالغنم فكنت أترك الخيل ل أذبحها ،وكان من معي من الغلمان
11
والخدم يأكلون مع أصحابنا التراك ،فاجتمع لي نحو خمسين فرسا وأمرت إلي الخاتون
بخمسة عشر فرسا".
ولم يلبث الركب أن دخل البرية في منتصف ذي القعدة( 25يوليو /تموز )1334فـ"كان
سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة وعشرين يوما وإقامتنا خمسة ورحلنا من
هذه البرية ثمانية عشر يوما مضحي ومعشي وما رأينا إل خيرا والحمد ل .ثم وصلنا بعد ذلك
إلى حصن مهتولي ،وهو أول عمالة الروم .وبينه والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوما
منها ستة عشر يوما إلى الخليج وستة منه إلى القسطنطينية" .وعاد بعض المرافقين في هذه
المرحلة من الطريق ،وبقي مع السلطانة ناسها الخلّص ،فكان" يؤتى إليها بالخمور في الضيافة
فتشربها وبالخنازير ،وأهملت الصلة ،وتغيرت البواطن لدخولنا في بلد الكفر" .ثم استقبلت
القافلة من قبل الروم استقبال حافل من عليّة القوم يتقدمه أخوها وشقيقها في خمسة آلف
فارس شاكين السلح .وبتقدّم القافلة كان يتضاعف عدد المستقبلين "وصل أخو الخاتون وليّ
العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلف مدرع وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو
عشرين من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم ،وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء إل أن
الحفل أعظم والجمع أكثر ،وتلقت معه أخته في مثل زيها الول وترجل جميعا ،وأوتي بخباء
حرير فدخلت فيه ول أعلم كيفية سلمها".
وتوقف الركب يرتاح على مسافة عشرة أميال من القسطنطينية" فلما كان الغد خرج أهلها
من رجال ونساء وصبيان ركبانا ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس ،وضربت عند الصبح
الطبال والبواق والنفار وركبت العساكر .وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب
هذه الدولة والخواص وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصى
طوال في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الورق ،وفي وسط الرواق مثل القبة
يرفعها الفرسان بالعصى ،ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج".
ويمضي ابن بطوطة في وصفه الستقصائي ،وقد لحت المدينة أمامه" كان دخولنا عند
الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى(=السبوع الثاني من سبتمبر/أيلول 1334م) وقد
ضربوا نواقيصها حتى ارتجّت الفاق لختلف أصواتها ،ولما وصلنا الباب الول من أبواب
قصر الملك وجدنا به مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكانة ،وسمعتهم يقولون "سراكنوا
سراكنوا" ومعناها المسلمون(=وتطلق على العرب أيضا ،والروم تسمي العرب سارقنوس أي
عبيد سارة زوجة إبراهيم) ومنعونا من الدخول .فقال لهم أصحاب الخاتون "إنهم من جهتنا"
فقالوا "ل يدخلون إل بإذن" فأقمنا بالباب .وذهب بعض أصحاب الخاتون فبعث من أعلمها
بذلك ،وهي بين يدي والدها ،فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا ،وعيّن لنا دارا بمقربة من دار
الخاتون ،وكتب لنا أمرا بأن ل نُعترض حيث نذهب من المدينة ،ونودي بذلك في السواق،
12
وأقمنا بالدار ثلثا ،فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغلة والدجاج والسمن والفاكهة
والحوت والدراهم والفرش.
وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان ،واسمه تكفور بن السلطان(= كان الحكم خلل هذه
الفترة لأندرونيكوس الثالث باليولوج الذي حكم بين العوام 1341-1328م) وأبوه السلطان
جرجيس بقيد الحياة(=ل يعرف إمبراطور بهذا السم طوال الفترة التي حكمت فيها أسرة
باليولوج من عام 1261لغاية عام 1453م حيث سقطت القسطنطينية بيد العثمانيين) لكنه
تزهّد وترهّب وانقطع للعبادة في الكنائس وترك الملك لولده .وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى
القسطنطينية بعثت إليّ الخاتون الفتى سنبل الهندي ،فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر ،فجزنا
أربعة أبواب في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة ،فلما وصلنا
إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ،ودخل ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين،
ففتشوني لئل يكون معي سكين ،وقال لي القائد :تلك عادة لهم ل بد من تفتيش كل من يدخل
على الملك من خاص أو عام غريب أو بلدي ،وكذلك الفعل بأرض الهند ،ثم لما فتشوني قام
الموكل بالباب ،فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي واثنان
من ورائي ،فدخلوا بي إلى مشور كبير حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من
الحيوانات والجماد في وسطه ماء ومن جهتها الشجار ،والناس واقفون يمينا ويسارا سكوتا ل
يتكلم أحد منهم .وفي وسط المشور ثلثة رجال وقوف ،أسلمني أولئك الربعة إليهم ،فأمسكوا
بثيابي كما فعل الخرون ،وأشار إليهم رجل ،فتقدموا بي ،وكان أحدهم يهوديا فقال لي
بالعربي "ل تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد ،وأنا الترجمان ،وأصلي من بلد الشام".
فسألته كيف أسلّم فقال "قل السلم عليكم".
ثم وصلت إلى قبة عظيمة والسلطان على سريره وزوجته أم هذه الخاتون(=يقصد بيلون)
بين يديه ،وأسفل السرير الخاتون وإخوتها ،وعن يمينه ستة رجال ،وعن يساره أربعة ،وكلهم
بالسلح فأشار إلي قبل السلم والوصول إليه بالجلوس هنيهة ليسكن روعي ،ففعلت ذلك ثم
وصلت إليه فسلّمت عليه ،وأشار أن أجلس فلم أفعل ،وسألني عن بيت المقدس والصخرة
المقدسة ،وعن القيامة(=كنيسة القيامة في القدس)وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة
الخليل عليه السلم ،ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلد الروم ،فأجبته عن ذلك كله،
واليهودي يترجم بيني وبينه .فأعجبه كلمي وقال لولده :أكرموا هذا الرجل وأمّنوه .ثم خلع
عليّ خلعة ،وأمر لي بفرس ملجم ،ومظلّة من التي يجعله الملك فوق رأسه وهي علمة
المان ،وطلبت منه أن يعيّن من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أشاهد عجائبها
وغرائبها ،وأذكرها في بلدي فعيّن لي ذلك.
13
ومن العوائد عندهم أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة
بالبواق والنفار والطبال ليراه الناس ،وأكثر ما يفعل ذلك بالتراك الذين يأتون من بلد
السلطان أوزبك لئل يؤذون ،فطافوا بي في السواق .والمدينة هي متناهية في الكبر منقسمة
بقسمين بينهما نهر عظيم المدّ والجزر على شكل وادي سل من بلد المغرب ،وكانت عليه
خرّبت ،وهو الن يعبر في القوارب ،واسم هذا النهر َأ ْبسُمي
فيما تقدم قنطرة مبنيّة ف ُ
(=المقصود هنا خليج القرن الذهبي) وأحد القسمين من المدينة يسمى اصطنبول ،وهو بالعدوة
الشرقية من النهر وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس وأسواقه وشوارعه مفروشة
بالصفاح متسعة ،وأهل كل صناعة على حدة ل يشاركهم سواهم ،وعلى كل سوق أبواب تسد
عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة بها نساء.
والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر ،وفي
أعله قلعة صغيرة .وقصر السلطان والسور يحيط بهذا الجبل ،وهو مانع ل سبيل لحد إليه
من جهة البحر وفيه نحو ثلث عشرة قرية عامرة ،والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم
من المدينة ،وأمام القسم الثاني منها فيسمى الغَلَطَه ،وهو بالعدوة الغربية من النهر شبيه برباط
الفتح في قربة من النهر ،وهذا القسم خاص بنصارى الفرنج يسكنونه وهم أصناف فمنهم
الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسا ،وحكمهم إلى ملك القسطنطينية يقدم عليه منهم
من يرتضونه ويسمونه القمص ،وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية وربما استعصوا
عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا ،وجميعهم أهل تجارة .ومرساهم من أعظم المراسي
رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار ،وأما الصغار فل تحصى كثرة وأسواق
هذا القسم حسنة إل أن القذار غالبة عليها ويشقها نهر صغير قذر نجس ،وكنائسهم ل خير
فيها.
والكنيسة العظمى إنما نذكر خارجها وأما داخلها فلم أشاهده ،وهي تسمى عندهم أيا
صوفيا(= Hagia Sophiaوهي كنيسة كبيرة اكتمل بناؤها في عهد المبراطور جستنيان في
عام 537م ،وكانت قد أقيمت على أنقاض كنيسة احترقت بناها المبراطور قسطنطين)
ويذكر أنها من بناء آصف بن برخياء وهو ابن خالة سليمان عليه السلم ،وهي من أعظم
كنائس الروم ،وعليها سور يطيف بها فكأنها مدينة وأبوابها ثلثة عشر بابا ،ولها حرم هو نحو
ميل عليه باب كبيرة ول يمنع أحد من دخوله ،وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره ،وهو
شبه مشهور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة لها حائطان مرتفعان نحو ذراع
مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة والشجار منظمة عن جهتي الساقية.
ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع عليه دوالي العنب،
وفي أسفله الياسمين والرياحين وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلت خشب
14
يجلس عليها خدام ذلك الباب ،وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها
قضاتهم وكتاب دواوينهم ،وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب
وفيها كرسي كبير مطبق بالملف يجلس فوقه قاضيهم..وعن يسار القبة التي على باب هذا
المشور سوق العطارين والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين :أحدهما يمر بسوق العطارين،
والخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب.
وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقيمون طرقها ويوقدون سرجها
ويغلقون أبوابها ول يدعون أحدا بداخلها حتى يسجد للصليب العظم عندهم الذي يزعمون أنه
بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلم ،وهو على باب الكنيسة مجعول في
جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع ،وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليبا.
وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص .وذُكر لي أن عدد من
بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلف ،وأن بعضهم من ذرية الحواريين ،وأن
بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من البكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف ،وأما القواعد
من النساء فأكثر من ذلك كله.
ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحا إلى زيارة هذه
الكنيسة ،ويأتي إليها البابا مرة في السنة .وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى
لقائه ويترجل له ،وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه ويأتيه صباحا ومساء للسلم
طول مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف ،والمانستار(=الدير)على مثل لفظ المارستان إل أن
نونه متقدمة وراءه متأخرة وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين ،وهذه المانستارات بها
كثيرة ،فمنها المانستار عمّره الملك جرجيس والد ملك القسطنطينية..وهو بخارج اصطنبول
مقابل الغََلطَه ،ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها ،وهما في داخل
بستان يشقهما نهر ماء ،وأحدهما للرجال والخر للنساء ،وفي كل واحد منها كنيسة ،وتدور
بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات ،وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين
ونفقتهم بناهما أحد الملوك ،ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل
هذين الخرين ،ويطيف بها بيوت ،وأحدهما يسكنه العميان والثاني يسكنه الشيوخ الذين ل
يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوها ،ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة
لذلك .وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبّد الملك الذي بناه وأكثر هؤلء الملوك إذا بلغ
الستين أو السبعين بنى مانستار ،ولبس المسوح وهي ثياب الشعر ،وقلّد ولده المُلك واشتغل
بالعبادة حتى يموت .وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء،
وهي كثيرة بهذه المدينة.
15
ودخلت مع الرومي الذي عيّنه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر ،وفيه كنيسة فيها
نحو خمسمائة بكر(=راهبات) عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلنيس اللبد ،ولهن
جمال فائق ،وعليهن أثر العبادة ،وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن النجيل بصوت لم أسمع
قط أحسن منه وحوله ثمانية من الصبيان على منابر ومعهم قسيسهم ،فلما قرأ هذا الصبي قرأ
صبي آخر ،وقال لي الرومي "إن هؤلء البنات من بنات الملوك ،وهبن أنفسهن لخدمة هذه
الكنيسة ،وكذلك الصبيان القراء ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة" .ودخلت أيضا إلى
كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبي يقرأ لهن على منبر وجماعة
صبيان معه على منابر مثل الولين ،فقال لي الرومي "هؤلء بنات الوزراء والمراء يتعبدون
بهذه الكنيسة" .ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد ،وإلى كنائس فيها العجائز
والقواعد من النساء ،وإلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل أو أكثر أو
أقل وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون وكنائسها ل تحصى كثرة ،وأهل المدينة من
جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلت الكبار شتاء وصيفا ،والنساء لهن
عمائم كبار.
والملك المترهب جرجيس ولّى المُلك لبنه ،وانقطع للعبادة ،وبنى مانستارا كما ذكرناه
خارج المدينة على ساحلها .وكنت يوما مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماش
على قدميه ،وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد ،وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه
أثر العبادة ،وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان وبيده عكاز ،وفي عنقه سبحة ،فلما رآه الرومي
نزل وقال لي "انزل فهذا والد الملك" .فلما سلّم عليه الرومي سأله عني ،ثم وقف وبعث لي
فجئت إليه ،فأخذ بيدي ،وقال لذلك الرومي ،وكان يعرف اللسان العربي "قل لهذا السراكنوا،
يعني المسلم ،أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس ،والرِجل التي مشت داخل الصخرة،
والكنيسة العظمى التي تسمّى قيامة ،وبيت لحم ،وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه،
فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم ،ثم أخذ بيدي ومشيت معه،
فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى وأطال السؤال ،ودخلت معه إلى حرم الكنيسة
الذي وصفناه آنفا ،ولما قارب الباب العظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلم
عليه ،وهو من كبارهم في الرهبانية ،ولما رآهم أرسل يدي ،فقلت له "أريد الدخول معك إلى
الكنيسة" .فقال للترجمان قل له "ل بد لداخلها من السجود للصليب العظم ،فإن هذا مما سنته
الوائل ،ول يمكن خلفه" .فتركته ،ودخل وحده ولم أراه بعدها.
ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتّاب ،فرآني القاضي فبعث إلي أحد
أعوانه ،فسأل الرومي الذي معي فقال له :إنه من طلبة المسلمين ،فلما عاد إليه أخبره بذلك
فبعث إلى أحد أعوانه ،وهم يسمون القاضي النجشي كفالي ،فقال لي "النجشي كفالي يدعوك"
16
فصعدت إلى القبة التي تقدّم ذكرها ،فرأيت شيخا حسن الوجه واللمة عليه لباس الرهبان وهو
الملف السود وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون ،فقام إلي وقام أصحابه وقال "أنت
ضيف الملك ،ويجب علينا إكرامك" .وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر ،وأطال الكلم
وكثر عليه الزدحام ،وقال لي "ل بد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك" .فانصرفت عنه ،ولم ألقه
بعد.
ولمّا ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من التراك أنها على دين أبيها ،وراغبة في المقام
معه ،طلبوا منها الذن في العودة إلى بلدهم ،فأذنت لهم وأعطتهم عطاء جزيل ،وبعثت معهم
من يوصلهم إلى بلدهم أمير يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس ،وبعثت إلي
فأعطتني ثلثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة ،وليس بالطيب ،وألفي درهم بندقية ،وشقة
ملف من عمل البنات ،وهو أجود أنواعه ،وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف وفرسين،
وذلك من عطاء أبيها وأوصت بي ساروجة .وودعتها ،وانصرفت .وكانت مدة مقامي عندهم
شهرا وستة أيام"(.)4
تبدو انطباعات ابن بطوطة ،وأوصافه الدقيقة ،معهودة إذا ما قورنت بحديثه المسهب عن
الحواضر التي زارها في شتى أرجاء العالم القديم ،فهو بارع في رصد المظاهر الدينية
والجتماعية ،وكشف الخلفيات التاريخية للحداث ،ولكن رحلته إلى القسطنطينية تتنزل في
المركز من الرحلت العربية إلى هذه المدينة ،فما من رحالة آخر ألمّ بتفاصيل الحياة فيها كما
ألمّ ابن بطوطة .من الصحيح أنه يلتقي مع هارون بن يحيى في الطر العامة لجغرافية
المدينة ،وتقسيماتها العامة ،كالقصر الملكي والكنيسة والخليج ،لكن ابن بطوطة يتابع بعين
ثاقبة التفاصيل المثيرة ،وهي قدرة اكتسبها وهو يقطع البلدان مدفوعا بفضول المعرفة ،ولم
يلبث أن تطور ذلك الذكاء ،ودقة الملحظة ،فجاءت رحلته نموذجا رفيعا لكل ما يصبو إليه
الرحالة فيما بعد.
لم تمض سوى أيام أربعة عليه في القسطنطينية إل ونجح ابن بطوطة في مقابلة الملك
بتوجيه من السلطانة بيلون التي رافقها ،ولم يتشكّ ،حينما جرى تفتيشه قبل الدخول إلى الملك،
فتلك تقاليد يشمل بها كل من يروم زيارته ،فقَبلها بل تذمر .ويلحظ أنه استخدم الوصف
الشائع آنذاك "تكفور" للملوك البيزنطيين ،ويراد به الوصف وليس التسمية ،وكان من قبل
يطلق على ملوك بلد الرمن ،ثم ملوك بيزنطة دللة على الملوك المتوّجين ،لكنه كان يطلق
أيضا على المراء الحاكمين .والمفاجأة أن يكون الترجمان يهوديا ،وهذه الوساطة اليهودية بين
مسلم ونصراني لها أكثر من دللة ،فقد كان اليهودي عارفا بتراث الثنين ،وتمكّن من أداء
المهمة بأفضل وجه ،لكن المفاجأة الخرى أن اللقاء تم في وسط حميمي عائلي ،فقد قابله
الملك وهو بين أفراد أسرته ،ودار الحديث حول بيت المقدس ،وقبة الصخرة ،ثم كنيسة
17
القيامة ،واستفسر الملك عن مهد المسيح في بيت لحم ،وتطور الحديث فشمل دمشق ومصر
والعراق ،وتجاوز ذلك إلى بلد الروم ،وقد أعجب الملك بنباهة محدّثه ،وسعة معجمه
المعرفي ،وتمكّنه من علوم عصره.
لم يكن ملك القسطنطينية استثناء ،فحيثما حلّ ابن بطوطة كان مثار إعجاب الملوك
والمراء .وسرعان ما ظهر أثر ذلك ،فقد أكرمه الملك ،وأمر بتأمين حاجاته ،وبسط حمايته
عليه ،ولم يتردّد الرحالة الضليع في استثمار الفرصة ،فقد التمس من الملك أن يخصص له
دليل يطوف به الحاضرة البيزنطية ليتعرف إليها جيدا ،ويحدّث بها قومه حينما يعود إلى بلد
العرب .ولم يكن كرم الملك بأقل ما طلب الرحّالة فقد خلع عليه لباسه ،وأركبه فرسه ،وراح
ابن بطوطة يطوف في أسواق القسطنطينية بالبواق والطبال ليعرف الناس بأنه ضيف الملك.
فطاف في المدينة بحماية ملكها.
لم تتوفر هذه الفرصة لهارون بن يحيى ،ومع ذلك ،فما أن ينتهي ابن بطوطة من وصف
هذه السلسلة من الصدف الرائعة إل يوازي نصه نص سلفه ،فيتطرق إلى قسمي المدينة
الرئيسين "وبينهما نهم عظيم المد والجزر على شكل وادي سل في بلد المغرب" يقصد بذلك
الخليج الذي يكاد يشطر المدينة إلى شطرين ،وهو الذي سوف يعرف بـ"القرن الذهبي"
وسوف يطابق ما قاله هارون قبله بنحو خمسة قرون من أن القسم الول من المدينة ،واسمه"
اصطنبول" يسكنه الملك وحاشيته ،وفيه أسواق مُعلّمة بحسب المهن والحِرف ،ومحميّة بأبواب،
وأغلب العاملين فيها من النساء .وفي هذا القسم توجد الكنيسة الكبرى ،وسماها بالسم :آيا
صوفيا .أما القسم الخر ،ويعرف بـ" غََلطَه" فهو في العدوة الغربية ،يكاد يقتصر على
نصارى الفرنج القادمين من جنوه ،والبندقية ،وروما ،وفرنسا ،ويتولى أمرهم رجل دين،
بأمر من الملك ،وحينما يحدث أن يتمرّدوا على سلطة الملك ،فإنهم يعاجلهم بالحرب ،فيتدخل"
البابا" فيصلح بينهم ،وهم في عمومهم تجار ،ولديهم مرسى لم ير ابن بطوطة أكبر منه.
واستأثرت منه الكنيسة الكبرى ،آيا صوفيا ،باهتمام واضح ،كما استأثرت باهتمام هارون
قبل نحو خمسة قرون ،ولكنه لم يكن بحظّ سلفه ،فقد حُظر عليه التجوال فيها ،فذلك مقصور
على من يسجد للصليب ،فيما ظل ابن بطوطة متمسّكا بعقيدته حيثما حلّ وارتحل ،لكنه تجول
في فنائها الخارجي ،وصرّح بأنها أعظم الكنائس ،وفيها الصليب الخشبي الذي صلب عليه
السيد المسيح ،وفيها ،كما روي له ،يتعبّد آلف الرهبان بعضهم من ذرية الحواريين ،وفيها،
إلى ذلك كنيسة خاصة بالراهبات البكار اللواتي يزيد عددهن على ألف .وكانت هذه مقدمة
للتميز بين المبراطور والبابا ،فالخير هو صاحب المقام الرفيع ،وهو ل يزور" آيا صوفيا"
إل مرة واحدة في السنة ،أما المبراطور فيمر بها كل صباح محاطا بحاشيته ،ولكن لهل
المدينة أديرة أخرى كثيرة يمارسون العبادة فيها ،وقد تقصّاها ابن بطوطة ،ولم يظهر تسفيها
18
للطقوس الدينية النصرانية ،إنما نظر إليها بتقدير واضح ،مشيدا بانقطاع العبّاد إلى عبادتهم
بخشوع ورهبة.
ن جمال فائق وعليهن أثر العبادة"
ثم لفت انتباهه دير خاص بالراهبات حليقات الشعر "له ّ
ن لخدمة ال ،يقرأ عليهن النجيل صبي حسن
وجميعهن من بنات الملوك ،وقد وهبن أنفسه ّ
الصوت ،ولحظ أيضا بأن لبنات الوزراء ،والمراء ،ووجوه البلد ،أديرة مماثلة .وقد قادته
خطواته في طرقات المدينة في يوم إلى لقاء الملك الب المترهّب "جرجيس" ماشيا على
قدميه ،وقد رآه بهيئة الفقير المتعبّد ،وحينما عرف أصل ابن بطوطة شرع الملك يصافحه،
ويتبرّك به كونه قد زار بيت المقدس ،بل إنه رافقه في تطوافه في المدينة ،لكنه امتنع عن
إدخاله الكنيسة الكبرى معه ،فهو ليس من عبّاد الصليب .وتأتي المفاجأة في نهاية الرحلة ،فقد
بلغه ارتداد السلطانة بيلون عن السلم ،وعودتها إلى ديانتها النصرانية ،وقرارها البقاء في
مسقط رأسها وترك زوجها السلطان المغولي ،ولهذا استأذن منها أتباعها العودة إلى بلدهم،
فأذنت لهم ،وأكرمتهم ،وشمل هذا الكرم ابن بطوطة الذي غادر المدينة معهم بعد أن أمضى
في القسطنطينية شهرا وستة أيام.
.4محمد رشيد رضا :حال الستانة العمرانية والجتماعية.
رحل المام محمد رشيد رضا إلى القسطنطينية ،كما يقول" للسعي في أمرين عظيمين:
إنشاء معهد علمي إسلمي ،وحُسن التفاهم بين عنصري الدولة الكبرين العرب والترك"(.)5
وأفاض في شرح الملبسات حول هذين المرين بعد أن أعلنت الحقبة الدستورية ،ومنها
اجتماعاته مع عليّة القوم في عاصمة الخلفة ،وخلل وجوده انتهز الفرصة فتجوّل في
المدينة ،وقدّم عنها وصفا يقوم على سلسلة من الحكام القيمية التي يتميز بها بوصفه رجل
دين .وذكرها بأسمائها الثلثة :القسطنطينية ،استانبول ،والستانة.
بدأ محمد رشيد رضا بوصف موقع المدينة ،وحالها العمرانية التي أثارت سخطه الواضح
"موقع هذه المدينة مشهور في جماله ومحاسنه الطبيعية ،ولو كانت هذه الدولة التي استولت
عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنية لجعلتها زينة الرض ومثابة المم ،ولكان لهلها من
السائحين مورد من أغزر موارد الثروة ،ولكنك ل تجد فيها أثرا من آثار العمران الحديث إل
المعسكرات من الثكنات والمدارس ،فصوفية العاصمة البلغار وأثينا عاصمة اليونان والقاهرة
عاصمة مصر ،كل أولئك أرقى من عاصمة الدولة عمرانا ،فالستانة موقع جميل ،ومعسكر
كبير ،ل تغيب الجنود عن عينيك فيها دقيقة من الزمان ،فعسى ال أن يسخّر لها الرجال الذين
يعمرونها بعمران المملكة ،ل بالستقراض من الجانب بالربا الذي يجعلها تحت سيطرتهم،
وعرضة عند الحوادث لمداخلتهم".
19
وبعد هذا الستهلل مضى قائل "أما العمران المعنوي وهو العلم والدب فلها حظ منه
تفضل به مصر وسورية وهو أن التعليم فيها أعم وأشمل ،وتربية النساء أسمى وأنبل ،وذلك
بأن أموال المملكة كانت تجبى إليها حتى ل يبقى في كل ولية إل الضروري الذي ل يمكن
الستغناء عنه مع إباحة الرشوة والسلب والنهب فكثرت فيها المدارس للذكور والناث ،على
أن الداب السلمية الموروثة ل تزال أقوى في بيوت هذه المدينة منها في بيوت مصر فل
ترى امرأة في نافذة ول على سطح إل أن تكون مستورة البدن والرأس كما تكون في السوق
ول تسمع من البيوت ول في السواق والشوارع صخبا ول هجرا من القول كما تسمع في
أسواق القاهرة وشوارعها ،ول يتبرّجن بمصر إل في بعض المواسم كآصال أيام رمضان في
جهة الشاه زاده ،وإل في بعض الضواحي حيث يسرحن ويمرحن متنزهات مظهرات لزينتهن،
على أن الكثيرات منهن يسفرن عن وجوههن في السواق والشوارع ولكنهن مع ذلك
يغضضن من أبصارهن كما أمر ال تعالى.
وإذا خرجن في الليل من دار إلى دار يخرجن بالجبة أو العباءة العربية المعروفة وبالقناع
البيض وذلك يكون زيهن الغالب في المتنزهات .فجملة القول إن آدابهن حسنة في خروجهن
في السواق والشوارع وبيوتهن نظيفة مرتبة ولولدهن حظ عظيم من النظافة والداب.
ويقول المختبرون من أهل البلد ومن الغرباء المقيمين فيه أن آداب غير المتعلمات أو
المتعلمات على الطريقة الحديثة الفرنجية ،وهن أشد عناية بالنظافة أيضا ،فالتفرنج في البيوت
هو الخطر الكبر الذي ينذر البيوت السلمية بالفساد ،وفي هذا البلد وغيره من البلد ،ويقال
إن أحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين يريد أن يربي بنات المسلمين في المدرة التي يسعى
في إنشائها مع بنات الفرنج والروم والرمن تربية ليس لها من صبغة الدين شيء ،فإذا تم
هذا المقصد فبشر بيوت هذا البلد بالخراب المعنوي والفساد الذي ل يفوقه فساد.
إن علم النساء المسلمات في الستانة دون علم الوربيات ،ولكن تربيتهنّ الدينية والدبية
أعلى من تربية الوربيات كما شهد بذلك غير واحدة من هؤلء بعد الختبار التام ومنهن من
صرحت بأن التفرنج آفة مفسدة لنساء الترك .نعم إنه يمكن أن تترقّى معارفهن وآدابهن ،ولكن
يجب أن يكون الدين هو أساس التربية ،وأن تكون العناية به فوق العناية بالعلم ،وليس في
أوروبا شعب يربّي البنات على اللحاد أو ترك الدين ،إن أثبت الشعوب الوربية مدنية هو
أشدها عناية بتربية النساء والطفال تربية دينية.
إن بين استانبول ،وقسم غََلطَه ،وبك أوغلي ،تباينا عظيما في العادات ونظام المعيشة وحالة
العمران على أن المسافة بينها تقطع بدقيقتين ،إذ الفاصل بينها هو الخليج المشهور ،وعليه
جسران للمشاة والركبان ومنهم من يقطعه بالزوارق .تشبه استانبول في عاداتها بلد المشرق
السلمية القديمة كطرابلس الشام فأزياء النساء في مدن سورية إل ما امتزن به .وأزياء
20
الرجال فيها كأزياء الرجال في مدن سورية :الطربوش ،والعمامة البيضاء ،والعمامة
المطرّزة ،والعمامة الخضراء ،والمناديل الملونة .كل ذلك من أزياء الرؤوس ،وكله كثير .وأما
سكان قسم غلطه فتكثر فيه مزاحمة الكمم والقلنس للطرابيش المجردة ويقل فيه غير ذلك.
يتعشى أهل استانبول بعيد المغرب كأهل سورية وتقفل أكثر المطاعم بعد العشاء بقليل
على حين يبتدئ أهل القسم الخر بالطعام وتظل مطاعمهم مفتوحة إلى قرب منتصف الليل
ويسهرون كثيرا ول يسهر أولئك إل قليل .ويكثر الفسق العلني والسري في قسم غلطة والفسق
العلني ممنوع في استانبول .وآداب الرجال العمومية حسنة كآداب النساء فل تكاد تنكر على
رفيع ول وضيع قول خشنا ول كبرا وترفعا ولكنك كثيرا ما تنكر عليهم إخلف الوعد وما في
معنى الخلف حتى يقل أن يثق المختبر بقوله يسمعه وسبب ذلك تأثير الستبداد الشديد وما
كان من الضغط والمراقبة على عهد عبد الحميد ،فذلك هو السبب الطبيعي لفشو الكذب
والخلف والتقلب في كل المم ،ولهذه العلة كثر الكذب والخلف والتقلّب وعدم الثبات في
جميع البلد العثمانية كما كثر ذلك من قبل في مصر ول على عهد إسماعيل باشا(.)6
ينبغي الخذ في الحسبان بأن المام كان متحيزا للفكرة التقليدية القائمة على مفهوم
الخلفة السلمية لكنه لم يغفل مظاهر الستبداد في السلطنة ،وهذا جعله يقف موقفا سلبيا من
الصلحات الدستورية التي حدّت من سلطان الخليفة ،وشرعت الفق أمام الخصوصيات
العرقية واللغوية والدينية ،وفي ذروة هذه الزمة التي أدت إلى تفكك المبراطورية بعد سنوات
قليلة ،وصل المام إلى المدينة ،وقد أفاض بالحديث عن مهمته لصلح شأن اللغة العربية،
ورتق العلقة المتأزمة بين القوميتين التركية والعربية في تلك الفترة جراء التعصبات التي
بثتها الجمعيات والحزاب ،وترتسم رؤية مأساوية للمام بإزاء التحولت الهادفة إلى تحديث
البنية التقليدية لمجتمع المبراطورية المحتضّرة ،فكل ذلك ترك بصماته على النطباعات التي
كتبها عن المدينة ،ومع أنه شارك أسلفه من الرحالة في الشادة بموقع المدينة ،ومحاسنها
الطبيعية ،لكنه أبدى انزعاجا واضحا من الخراب المخيّم على المدينة "لو كانت هذه الدولة التي
استولت عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنيّة لجعلتها زينة الرض ومثابة المم".
لم يقع بصر المام ،وهو يطوف في أرجاء إسطنبول إل على" المعسكرات من الثكنات
والمدارس" وإذا ما قورنت بصوفيا ،وأثينا ،والقاهرة ،فهي دون تلك العواصم ،فقد كانت ثكنة
كبيرة يمخرها الجند ،وتمنّى على ولة المر أعمارها بموارد المبراطورية ،وليس
"بالستقراض من الجانب بالربا الذي يجعلها تحت سيطرتهم" .وواضح أنه مفجوع بما آلت
إليه المدينة التي كانت قِبلة الدنيا في الماضي ،فالصورة التي ارتسمت لها في عينيه تختلف
تماما عن الصورتين اللتين رأيناهما في عيون هارون بن يحيى وابن بطوطة ،وكان الزمن
كفيل بتحسين وضع القسطنطينية إلى أحسن ما كنت عليه من حسن سابق ،لكن الواقع جعلها
21
تتراجع إلى الخلف ،فقد كانت قلبا مكلوما لمبراطورية آفلة ،وأول ما ظهرت عليها مظاهر
الخراب.
ثم انتقل إلى وصف" العمران المعنوي" قاصدا بذلك" العلم والدب" فوجدهما فيها أفضل
مما في مصر وسوريا ،لن" التعليم فيها أعمّ وأشمل ،وتربية النساء أسمى وأنبل" ولحظ أن"
الداب السلمية" مازالت نافذة ،فمعظم النساء محتجبات في بيوتهن ،أو ساترات لجسادهن،
ول يكاد يظهر منهن ما يخدش الحياء العالم إل ما ندر .وجملة القول فإن "آدابهن حسنة".
وهذا حديث يشمل فقط أولئك النسوة الخذات النهج السلمي طريقا للتربية ،لكن هنالك فئة
أخرى من المتفرنجات اللواتي أخذن بالتربية الغربية ،وقد استأثرت هذه الفئة بكل بضروب
الذمّ والنتقاص منه؛ لن الحداثة الفرنجية ،هي "الخطر الكبر الذي ينذر البيوت السلمية
بالفساد في هذا البلد وغيره من البلد".
وكان هذا مدخل للتذمّر مما كان يقع من صراع ثقافي وسياسي في أوساط المجتمع بين
مناصري الخلفة التقليدية ،ومناصري الجمعيات الجديدة الداعية للتحديث ،كالتحاد والترقي،
وجمعية تركيا الفتاة ،وجميعها كانت تدعو إلى الخصوصيات العرقية واللغوية والدينية،
ومحاكاة النموذج الغربي ،وقد اختار مثال لذلك شخص" أحمد رضا بك" رئيس مجلس
المبعوثان(=مجلس النواب) فقد سعى إلى الخذ بالحداثة الغربية ،وبخاصة مفاهيم الثورة
الفرنسية ،وحاول تطبيقها في المجتمع العثماني التقليدي ،فنال كثيرا من النقد ،ومن ذلك
محاولته نقل التجربة الغربية في مجال حرية المرأة ،فذلك من المحظور عند المام ،وإذا ما
فشت تلك الحرية" فبشّر بيوت هذا البلد بالخراب المعنوي والفساد الذي ل يفوقه فساد" ذلك" أن
الدين أساس التربية" .وينبغي أن كون" العناية به فوق العناية بالعلم".
وقد لفت انتباه المام التباينُ الطبقي والثقافي والعمراني بين أحياء المدينة ،ولحظ
الختلف في "العادات ونظام المعيشة وحالة العمران" مع أنه ل يفصل بين أطرافها سوى
القرن الذهبي ،وخلصة ما يرتسم في عيني المام أن المدينة تتهددها القيم الغربية من جهة،
وهذا هو الخراب المعنوي ،وتعاني من إهمال وتراجع في البناء ،وهذا هو الخراب العمراني،
ولم يهمل أثر الستبداد في ثلم الخلقيات العامة من كذب ورياء ،وتقلّب المواقف ،وعدم
التزام بالمواعيد.
.5خاتمة.
ارتسمت ثلث صور لسطنبول في أعين الرحالة العرب خلل ألف سنة .أسّستْ
الصورة الولى لمعظم التخيلت الجغرافية عنها في القرون الوسطى ،وفيها رسّخ هارون بن
يحيى نزوعا يحتفي بالدهشة ،ويغرق في التفاصيل ،فهو يتحدّث عن حاضرة دار الحرب حيث
ل مثيل لها في دار السلم ،ومع أن عيني هارون كانتا ذكيتين وحساستين فإنهما مرّتا على
22
الطبقة الخارجية لسطنبول البيزنطية ،ولم تتوغل في أسرارها الدينية والثقافية .من الصحيح
أنه وصف المظاهر الدينية لكنه عجز عن تفسيرها ،وتأويلها.
وجاءت الصورة التي رسمها ابن بطوطة لتعمّق الصورة الولى لكنها نجحت في فك
بعض الشفرات الدينية والثقافية ،فقدّمت صورة بانورامية لما يدور في قلب المدينة ،وبخاصة
القصر المبراطوري ،والكنيسة الكبرى ،والديرة المرتبطة بها ،ثم السواق ،ولم يهمل
التقاليد ،والعلقات الجتماعية ،والتراتبات السياسية والدينية للبابا والمبراطور وسواهم ،وبكل
ذلك تحرّكت الصورة القديمة ،واكتست بالحياة ،وفي قلبها تحرّك ابن بطوطة محميا من
المبراطور ،فلم تعد المدينة مشهدا جامدا يصفه الرحالة إنما أصبحت مكانا يتجول فيه،
ويلمس بثقافته السلمية معالمه كافة.
ثم ظهرت الصورة الخيرة التي رسمها رجل دين مشدود إلى تفسير ديني للتاريخ ،فلم
يرَ في حاضرة السلطنة إل طلل آيل للخراب بفعل إهمال ولة المر لها ،وتسلّل مظاهر
الحداثة الغربية إلى أهلها ،فرآها في أفولها العمراني والثقافي .من الصحيح إنها كانت قلب دار
السلم ،لكن دار السلم نفسها كانت قد بدأت بالتصدّع ،وقد طال التصدّع قلبها .ومن
المفارقة أن تكون إسطنبول مثار إعجاب هارون بن يحيى وابن بطوطة وهي عاصمة لدار
الحرب ،فيما لم تكن ،وهي حاضرة دار السلم ،سوى موضوع للحزن والرثاء من طرف
المام محمد رشيد رضا.
الهوامش
.1اغناطيوس يوليانوفتش كراتشوفسكي ،تاريخ الدب الجغرافي العربي ،نقله إلى العربية صلح الدين
عثمان هاشم ،القاهرة ،لجنة التأليف والترجمة والنشر135 :1 ،
.2محمد عبد المنعم الحميري ،الروض المعطار في خبر القطار ،تحقيق إحسان عباس ،بيروت ،مؤسسة
ناصر للثقافة ،1980 ،ص 482-481
.3انظر نص الرحلة كامل في كتاب ابن رسته ،العلق النفيسة ،ليدن ،بريل1893 ،
.4انظر النص كامل في كتاب رحلة ابن بطوطة" تحفة النظّار في غرائب المصار وعجائب
السفار" تحقيق عبد الهادي التازي ،المغرب1997 ،
.5رحلت المام محمد رشيد رضا ،جمع وتحقيق يوسف إيبش ،بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات
والنشر ،1971 ،ص .61
.6انظر نص الرحلة كامل في كتاب "رحلت المام محمد رشيد رضا".
23
* باحث ،وأستاذ جامعي من العراق ،حاصل على جائزة شومان للعلوم النسانية عام 1997متخصص في
الدراسات السردية والثقافية .شارك في موسوعة Cambridge history of Arabic literatureوفي
عشرات المؤتمرات ،والملتقيات النقدية والفكرية .عمل أستاذا للدراسات الدبية في عدد من الجامعات
العراقية ،والليبية ،والقطرية.
من مؤلفاته:
.1المطابقة والختلف ،بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر2004 ،
.2المركزية الغربية ،بيروت ،المركز الثقافي العربي1997 ،وط 2بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات
والنشر2003،
.3المركزية السلمية ،المركز الثقافي العربي ،بيروت2001 ،
.4الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ،بيروت ،المركز الثقافي العربي1999 ،
.5التلقي والسياقات الثقافية ،بيروت ،دار الكتاب الجديد المتحدة ،2000،وط 2الرياض ،دار اليمامة،2001،
وط 3الجزائر ،منشورات الختلف2005 ،
.6السردية العربية ،بيروت ،المركز الثقافي العربي ،1992 ،وط ،2بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات
والنشر 2000
.7السردية العربية الحديثة ،بيروت ،المركز الثقافي العربي2003 ،
.8المتخيّل السردي ،بيروت ،المركز الثقافي العربي1990 ،
.9معرفة الخر ،بيروت ،المركز الثقافي العربي،1990،ط 1996 ،2
.10التفكيك :الصول والمقولت ،الدار البيضاء ،دار عيون1990،
.11تحليل النصوص الدبية ،بيروت ،دار الكتاب الجديد المتحدة1999 ،
.12النثر العربي القديم ،الدوحة ،المجلس الوطني للثقافة2002 ،
.13الرواية والتاريخ ،الدوحة ،المجلس الوطني للثقافة2006 ،
.14الرواية العربية :البنية السردية والدللية ،الرياض ،دار اليمامة2007 ،
.15موسوعة السرد العربي ،بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2005 ،ط 2008 ،2
.16عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين ،أبوظبي ،المجمع الثقافي ،2001 ،وط ،2بيروت ،المؤسسة
العربية للدراسات والنشر2008 ،
24