لغة القرآن المجيد ،لغة الحديث الشريف ،لغة التدوين والتأليف في السلم ،لغة التخاطب والتفاهم بين سائر المسلمين في الدنيا والخرة ،فهي الصلة بين الله تعالى وعباده وبين رسوله وأمته وبين شرعه وعباده ،وبين الوائل والواخر ،وبين الغائبين والحاضرين. وإحياؤها إحياء لتلك الصلة الكبرى والرابطة العظمى والحبل المتين ،وإماتتها إماتة لتلك، وسعادة المسلمين منوطة بإحيائها ل من حيث كونها لغة قومية فقط ـ وحياة القومية بحياة لغتها وموتها بموتها ـ ولكن من حيث كونها لغة الدين ،لغة الشريعة أيضا ،إذ ل تتلقى هذه كما يجب إل بإتقان تلك وتفهم أساليبها ومناهجها عند أئمتها وأمرائها. و لهذا بذل علماء المسلمين وفطاحلهم في العصور الولى عصور الرقي العقلي و النضوج العلمي و الدبي جهودا هائلة في خدمتها، فقسموها إلى فنون شتى خصوها بالتدوين و التأليف ،و قد أجادوا فيها ،و بلغوا فيها غاية الضبط و التقان ،ولكل في خدمتها وجهة هو موليها وناحية هو قاصدها ,وكانت النتيجة أن أصبحت اللغة العربية لغة غنية بمفرداتها وبعلومها وبأساليبها. فقامت لها أسواق رائجة في نوادي دمشق وبغداد وقرطبة والقيروان والقاهرة وتجاوبت أصداء الدباء والشعراء والعلماء بين جدران سائر الممالك السلمية. ثم بعد هذا الزدهار تولها الذواء والذبول إلى أن كادت تضمحل وتلك سنة الله في كل كائن حي ماديا كان أم أدبيا فمن دور التكون إلى دور الطفولية ,إلى دور الشبيبة ,إلى الكهولة ,إلى الشيخوخة ..إلخ .لول أن القرآن الكريم كان لها كالعمود الفقري من جسمها حافظا لها من التلشي ,وفي هذا الدور الخير قيض الله لحيائها وبعثها من جديد ,رجال من مصر والشام وتونس ,فوفوها حقها من الخدمة والتدوين وهذبوها مما علق بها في دور تدنيها من اللفاظ الدخيلة ,والساليب الغريبة المهجورة ,وفتحوا باب اشتقاقها لسماء المستحدثات العصرية,فأعربوا بذلك أن اللغة العربية وسع صدرها لحمل المانة التي عرضها الله على السموات والرض والجبال فأبين أن يحملنها ,فهي أولى وأجدر بحمل ما يلده كل عصر من غرائب الختراع و الكتشاف فقطعوا بهذا ألسنة الخراصين الذين يدعون أن اللغة العربية وإن كانت لغة الدين ,فهي ليست لغة علم. ول ينكر ما فتح للغة العربية من خدماتهم هاته من الزدهار والنضوج ومن التساع و النتشار ومجاراة اللغات الحية ,ومسابقتها في مضمار الحياة. فكما كان لتلك مدارسها ومجامعها ومعجماتها و نواديها ومجالتها وجرائدها ,فكذلك كانت لهذه وإن كانت بصور مصغرة. فلو أن اللغة العربية وجدت ما وجدت اللغات الحية الخرى من الدول الكبرى ،والمساعدات العظيمة المادية والمعنوية على النمو و النتشار ،لصبحت قي مقدمة اللغات الحية رواجا وانتشارا وثروة ،ولكن هو الحظ يقوم تارة ويعثر مرارا ،ولو لقت تلك اللغات ما لقته العربية من عناصر الوهن و الضمحلل لماتت منذ زمان ،ولكن الله سبحانه وتعالى الذي جعل القرآن ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ـ وهو عربي مبين ـ قد كتب للغة العربية الحياة و الخلود مادام قرآنه في أرضه ،ولو كان الناس قاطبة بعضهم لبعض ظهيرا. وكلما وهن عظمها وضعف حالها بعث الله من يجدد أمرها ،وينفخ فيها من ذلك الكتاب الكريم وكلم حماته روح الحياة كما بعث أولئك الرجال في هذا العصر على إحيائها وإعلء شأنها ,ذلك هو حظها اليوم من أبنائها في الشرق .و ما هو حظها من أبنائها المسلمين الجزائريين يا ترى؟ إن حظها منهم عاثر وحالها بينهم حال غريب في داره ,أمش معي أيها الخ الكريم ,وادخل المحال العمومية ول سيما في العاصمة , المجتمعات والنوادي والمحتفلت والمقاهي , والمسارح وغيرها من الماكن الهلية اصغ جيدا لما تسمعه من المتخاطبين ,فماذا تسمع هنالك يا ترى؟ تسمع رطانة غريبة وخليطا من اللغة ل هو عربي ول بربري ول فرنسي و إنما هو مزيج من العربية و البربرية والفرنسية ،والعربية منه أقل الثلثة مع ما هي عليه من التكسر و الختزال. و الغرب من هذا أنك ترى كثيرا ما يقع إشكال بين المتخاطبين بالعربية فإذا التجأوا إلى الفرنسية تفاهموا وزال الشكال والكل عرب مسلمون .ومما يقضي بالدهشة والستغراب أنك ترى متصاحبين عربيين مسلمين يتخاطبان باللغة الجنبية كلغتهما الصلية نابذين لغتهما ولغة أجدادهما ظهريا ,ظنا منهم أن ذلك من مقتضيات التمدن الحديث ,والتكلم بلغة الجداد إنما هو تمسك بقشور بالية تنافي الرقي والتمدن الواجب احتذاؤهما وإن كان فيه إماتة المجد والشرف والعظمة القومية ،والمغلوب يتقصى أثر الغالب ويقلده شبرا بشبر وذراعا بذراع ,وإن كان في ذلك حتفه و هلكه. هذا شيء من حظ العربية من أبنائها الجزائريين ,وذلك حظها من أبنائها في الشرق ,والفرق كبير بين الحظين ,هو كالفرق بين الحرية والعبودية ,وبين العلم والجهل، وتلك الحالة السيفة نتيجة طبعية لمور : أول :جهل المسلمين وإعراضهم عن العلم الصحيح وضعف تمسكهم بالدين الحنيف ,ولو أنهم عضوا على دينهم بالنواجد ,وأقبلوا على العلم الصحيح ونفروا من الجهل نفورهم من الفقر لكان للغة العربية بينهم مالها بين إخوانهم في الشرق من المكانة العليا و المنزلة الرفيعة. ثانيا :عدم رغبة الحكومة في وجودها والعمل على قتلها وإماتتها لسرار تعلمها هي ,فلو تركتها وشأنها ولم تصبها في مقاتلها بتقييد حرية نشرها أو أنها نشطت سيرها وأنعشت روحها فجعلتها بجانب لغتها رسمية في الدارات والمدارس وغيرها كما يقتضيه النصاف نحو الغلبية الساحقة لكان لها شأن وأي شأن. ثالثا :وهن القومية العربية و اندماجها في القومية البربرية وعدم اعتبار هذه للعربية بما يجب للسلم من العتبار ،وللوسيلة حكم المقصد فلو كانت للعنصرية العربية نعرتها على إحياء لغتها أو كان للعنصرية البربرية نحو اللغة العربية ما لها نحو الدين من التقدير و العتبار لقاموا جميعا ـ وهم كلهم مسلمون وهي لغتهم جميعا ـ بخدمات جليلة نحوها تجعلها في الجزائر كما هي في تونس. و لكن ل إياس للعربية من أبنائها الجزائريين وقد لحت منهم بوارق آمال نحو إحيائها في ربوعهم و أخذ يدب في عروقهم دبيب إحساسهم وشعورهم نحو إنعاش روحها. و لئن لم يبد منهم نحو ذلك عمل مفيد جدي فقد أبدوا منهم من التألم و الشكوى من تلك الحال السيفة ،و الشعور بالنقص أول مراتب الكمال، وما ظهور الجرائد العربية و تأسيس بعض النوادي إل أثر من ذلك ،و أول الغيث قطر ثم ينسكب. إلى القارئ الكريم قطعة من خطاب شاب جزائري ألقاه بالفرنسية في حفلة تأسيس النادي العربي بباريس سابقا ليعلم به مبلغ التذمر من الجهل بلغتهم الصلية وعدم اقتناعهم بما هم عليه من اللغة الجنبية. قال و قد أجال نظرة حزينة في إخوانه :كم يحزنني و يمزق نياط قلبي أن أكون عربي الصل عربي النزعة فل أستطيع أن أخاطبكم إل بلغة الجنبي و أن أستمع لخطبكم فل أفهم منها إل نبراتكم التي تهز جوانحي و أرى حماسكم فأكاد أطير جنونا بكم ...إلخ. وادي ميزاب ،ع (3/11/1927) 55 : ][1