Escolar Documentos
Profissional Documentos
Cultura Documentos
العــبوديــة
مسائل وقواعد ومباحث
تأليف
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 2
هو أساس السلم ،وقاعدة اليمان ،وثمرة شجرة الحسان ،فضل ً عن أن يكون
من أهل العرفان.3(...
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
) إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلص العمل له ،وهذا
عين سعادة العبد ،ول سبيل إلى معرفة الله إل بمعرفة أسمائه وصفاته ،والتفقه
في فهم معانيها..
ب الذي يؤمن به ،ويبذل جهده في معرفة أسمائه بل حقيقة اليمان أن يعرف الر ّ
وصفاته ،حتى يبلغ درجة اليقين.
وبحسب معرفته بربه ،يكون إيمانه ،فكلما ازداد معرفة بربه ،ازداد إيمانه ،وكلما
نقص نقص ،وأقرب طريق يوصله إلى ذلك :تدبر صفاته وأسمائه من القرآن(.4
والمقصود بالتعبد بأسماء الله )تعالى( وصفاتـه :تحقيـق العلـم بهـا ابتداًء ،وفقه
معاني أسمائه وصفاته ،وأن يعمل بها ،فيتصف بالصفات التي يحبها الله )تعالى(:
كالعلم ،والعدل ،والصبر ،والرحمة ..ونحو ذلك ،وينتهي عن الصفات التي يكرهها
الله )تعالى( من عبيده مما ينافي عبوديتهم لله )تعالى( ،كالصفات التي ل يصح
للمخلوق أن يتصف بها كالكبر والجبروت ...فيجب على العبد ـ إزاءها ـ القرار بها
والخضوع لها.
َ
ماُء
س َومن العمل بها :أن يدعو الله )تعالى( بها؛ كما قال سبحانه )) :وَل ِل ّهِ ال ْ
عوه ُ ب َِها(( ]العراف ،[180 :كما أن من العمل بها :تعظيمها وإجللها، سَنى َفاد ْ ُ
ح ْ
ال ُ
وتحقيق ما تقتضيه من فِْعل المأمورات وترك المحظورات.
يقول ابن تيمية) :إن من أسماء الله تعالى وصفاته ما ُيحمد العبد على التصاف
به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك ،ومنها ما يذم العبد على التصاف به
كاللهية والتجبر والتكبر ،وللعبد من الصفات التي ُيحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع
ب به كالعبودية والفتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك(.5 اتصاف الر ّ
ب الخلق إليه من ب أسماءه وصفاته كان أح ّ وقال ابن القيم) :لما كان سبحانه يح ّ
اتصف بالصفات التي يحبها ،وأبغضهم إليه :من اتصف بالصفات التي يكرهها،
فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لن اتصافه بها ظلـم ،إذ ل
تليق به هذه الصفات ول تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد ،وخروج من اتصف
ده ،وهذا خلف بها من ربقة العبودية ،ومفارقته لمنصبه ومرتبته ،وتعديه طوره وح ّ
ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والحسان والصبر والشكر ،فإنها ل
تنافي العبودية ،بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته ،إذ المتصف بها من العبيد
لم يتعد طوره ،ولم يخرج بها من دائرة العبودية(.6
وقال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث ) لله تسعة وتسعـون اسما ً -مائة إل
واحدا ً -من أحصاها دخل الجنة(:7
ل ،سّلم جميع أوامره، ) وقيل :معنى أحصاها :عمل بها ،فإذا قال) :الحكيم( ،مث ً
لن جميعها على مقتضى الحكمة ،وإذا قال) :القدوس( ،استحضر كونه منزها ً عن
طال :طريق العمل جميع النقائص ،وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل .وقال ابن ب ّ
بها :أن الذي يسـوغ القتـداء بـه فيها كالرحيم والكريم :فإن الله يحب أن يرى
حلها على عبده ،فليمًرن العبد نفسه على أن يصح له التصاف بها ،وما كان
يختص باللـه )تعالى( كالجبار والعظيم فيجب على العبد القرار بها ،والخضوع لها،
وعدم التحلي بصفة منها ،وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة،
وما كان فيه معنى الوعيد :نقف منه عند الخشية والرهبة(.8
ومما يستحق تقريره -هاهنا -أن تلزما ً وثيقا ً بين إثبات السماء والصفات لله
ققَ العبد أسماء الله وصفاته تعالى وبين توحيد الله تعالى بأفعال العباد ،فكلما ح ّ
ل ،كلما كان أعظم وأكمل توحيدًا ،وفي المقابل فإن هناك تلزما ً وطيدا ً علما ً وعم ً
بين إنكار السماء أو الصفات وبين الشرك.
يقول ابن القيم ـ في تقرير هذا التلزم ـ) :كل شرك في العالم فأصله التعطيل،
فإنه لول تعطيل كماله ـ أو بعضه ـ وظن السوء به ،لما أشرك به ،كما قال إمـام
كمما ظ َن ّ ُ
ن ) (86فَ َ
دو َ ن الّلـهِ ت ُ ِ
ري ُ دو َ
ة ُ الحنفــاء وأهـل التوحيد لقومه)) :أ َئ ِ ْ
فكا ً آل َِهـ ً
ن(( ]الصافات [87 ،86 :أي :فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم ب الَعال َ ِ
مي َ ب َِر ّ
معه غيره؟ ،وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى
الشركاء والعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج
إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟ ،أم ظننتم أنه ل يقدر وحده على استقلله
س فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قا ٍ
عباده؟ ...والمقصود أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه ،فل تجد معطل ً إل وشركه
ل ومستكثٌر(.9 على حسب تعطيله ،فمستق ّ
ونورد أمثلة في توضيح هذا التلزم والصلة بين توحيد العبادة وتوحيد السماء
والصفات.
11
مدارج السالكين ،جـ ،2ص .117
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 7
ـ وأشار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى أن أصول العبادة الثلثة
ب ،والرجاء ،والخوف( من آثار وثمرات التعبد بأسماء الله وصفاته ،فقال ـ )الح ّ
في مسائل ذكرهـا في تفسيـر سورة الفاتحة ـ) :أركان الدين :الحب ،والرجـاء،
ن(( ،والرجاء في ب الَعال َ ِ
مي َ مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ والخوف ،فالحب في الولى ،وهي ))ال ْ َ
ح ْ
ك ي َوْم ِ
مال ِ ِ
م(( ،والخوف في الثالثة ،وهي )) َ حي ِ
ن الّر ِ
حمـ ِالثانية ،وهي ))الّر ْ
ن(((.13
دي ِ
ال ّ
ـ إذا ظهر بهذه المثلة مدى التلزم الوثيق بين صفات الله )تعالى( وما تقتضيه
من العبادات الظاهرة والباطنة ،فيمكن أن نخلص إلى ما حرره ابن القيم بقوله:
ة خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها ،أعني :من موجبات ) لكل صفة عبودي ٌ
العلم بها والتحقيق بمعرفتها ،وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على
القلب والجوارح ،فعلم العبد بتفرد الرب )تعالى( بالضّر والنفع ،والعطاء والمنع،
والخلق والرزق ،والحياء والماتة :يثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا ،ولوزام
التوكل وثمراته ظاهرًا ،وعلمه بسمعه )تعالى( وبصره ،وعلمه أنه ل يخفى عليه
مثقال ذرة ،وأنه يعلم السر ،ويعلم خائنة العين وما ُتخفي الصدور :يثمر له حفظ
لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما ل يرضي الله ،وأن يجعل تعلق هذه
العضاء بما يحبه الله ويرضاه ،فيثمر له ذلك :الحياء باطنًا ،ويثمر له الحياء
اجتناب المحرمات والقبائح ،ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته
توجب له سعة الرجاء ...وكذلك معرفته بجلل الله وعظمته وعزه ،تثمر له
الخضوع والستكانة والمحبة ،وتثمر له تلك الحوال الباطنة أنواعا ً من العبودية
الظاهرة ،هي موجباتها ..فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى السماء والصفات(.14
والتعبد بأسماء الله )تعالى( وصفاته له آثاره الطيبة في حسن الخلق وسلمة
السلوك ،كما أن تعطيل أسماء الله )تعالى( وصفاته ل ينفك عن مساوئ الخلق
ورديء السلوك.
ومثال ذلك :أن القدرية النفاة لما كانوا ينفون علم الله تعالى المحيط بكل شيء،
خلقه ـ على ويزعمون أن العبد يخلق فعله نفسه ،فالخير هو الذي أوجده العبد و َ
عجبًا ،وكما قال أبو حد ّ زعمهم ـ ،ودخوله الجنة عوض عمله ،فأورثهم ذلك غرورا ً و ُ
سليمان الداراني:
12
غْيَر
ل َ
ن ِبا ِّ
ظّنو َ
زاد المعاد ،جـ ،3ص 229ـ ،235بتصرف ،وانظر :كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب ،باب قوله)تعالى(َ)) :ي ُ
جاِهِلّيِة((.
ظنّ ال َ
ق َ
حّ
ال َ
13
تاريخ ابن غنام ،جـ ،2ص .360
14
مفتاح دار السعادة ،جـ ،2ص 90باختصار ،وانظر :طريق الهجرتين ،ص ،43ومدارج السالكين ،جـ ،1ص ،420جـ ،3ص ،351
والفوائد ،ص .63
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 8
)كيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنما يعد ّ العمل نعمة من الله ،إنما ينبغي له أن يشكر
ويتواضع ،وإنما يعجب بعمله القدرية(.15
ـ والتعبد بأسماء الله )تعالى( وصفاته سبب رئيس في السلمة من الفات:
كالحسد ،والكبر ،كما قال ابن القيم) :لو عرف رّبه بصفات الكمال ونعوت
الجلل ،لم يتكبر ولم يحسد أحدا ً على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع
من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله ،ويحب زوالها عنه
والله يكره ذلك ،فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته.16(...
ـ والتعبد بأسماء الله )تعالى( وصفاته يثمر الموقف الصحيح تجاه المكروهات
والمصائب النازلة؛ فإن النسان ظلوم جهول ،والله )تعالى( بكل شيء عليم ،وهو
ب ع َل َي ْك ُ ُ
م دل ،ول يظلم )تعالى( أحدًا ،قال )سبحانه( )) :ك ُت ِ َ مع ْ حك َ ٌ)سبحانه( َ
شْيئا ً َ َ
حّبوا َ سى أن ت ُ ِ خي ٌْر ل ّك ُ ْ
م وَع َ َ شْيئا ً وَهُوَ َ
هوا َ سى أن ت َك َْر ُ م وَع َ َ ل وَهُوَ ك ُْره ٌ ل ّك ُ ْ قَتا ُ
ال ِ
َ
ن(( ]البقرة[216 : مو َ م ل ت َعْل َ ُ م وَأنت ُ ْ ه ي َعْل َ ُ م َوالل ّ ُ شّر ل ّك ُ ْ
وَهُوَ َ
يقول ابن القيم) :من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينا ً
أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح
والمنافع التي ل يحصيها علمه ول فكرته ،بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها
فيما يحب.17 (...
ويقول أيضًا ..) :فكل ما تراه في الوجود ـ من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص
في نفسك وفي غيرك ـ فهو من قيام الرب )تعالى( بالقسط ،وهو عدل الله
وقسطه ،وإن أجـراه على يد ظالم ،فالمسلـط له أعدل العادلين ،كما قال
ً )تعالى( لمن أفسد في الرض)) :بعث ْنا ع َل َيك ُم ِ ً ّ ُ
سوا جا ُ ديد ٍ فَ َ ش ِ س َ عَبادا لَنا أوِْلي ب َا ٍ ْ ْ ََ َ
ل الد َّيارِ (( ]السراء.18[5 : خل َ ِ
وفي ختام هذه المقالة نسوق أمثلة من أسماء الله )تعالى( ،وبيان معانيها وما
تقتضيه من العبادات ،يقول قوام السنة الصفهاني ـ أثناء حديثه عن اسم الله
)تعالى( )الرزاق( ـ:
ع
س َ ) الرزاق :المتكفل بالرزق ،والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها ،وَ ِ
ن
م ْ الخلقَ كلهم رزُقه ،فلم يخص بذلك مؤمنا ً دون كافر ،ول ولي ّا ً دون عدو ،ويرزق َ
ن عبد غيره ،والغلب من المخلوق أن يرزق فإذا غضب منع ،حكي أن م ْ عبده و َ
جراية لبعض العلماء ،فقال :ل أريده ،أنا في جراية بعض الخلفاء أراد أن يكتب ِ
َ
داب ّةٍ ل ّ من َ ي لم يقطع جرايته عني ،قال الله )تعالى()) :وَك َأّين ّ من إذا غضب عل ّ
حلية الولياء ،لبي نعيم ،جـ ،9ص .263 15
18
مدارج السالكين ،جـ ،1ص .425
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 9
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 10
صل أضعافه بكسبه ،فهو هكذا أبدًا مع لصوص الجن سرق منه استنقذه من سارقه ،أو ح ّ
استيقظ وعلم ما ُ
24
والنس ،ليس كمن فتح لهم خزانته ووّلى الباب ظهره( .
وعندما يصر الكثير من المسلمين على فعل المعاصي ظانين أن ذلك ل يخدش توحيدهم ،وأنهم لم يشركوا
بال شيئًا ،فإن ابن القيم يقول في الرد على هؤلء -أثناء توضيحه لمعنى الحديث القدسي): -يا ابن آدم ،لو
أتيتني بُقراب الرض خطايا ثم لقيتني ل تشرك بي شيئًا لتيتك بُقرابها مغفرة (.25
)اعلم أن هذا النفي العام للشرك -أن ل يشرك بال شيئًا ألبتة -ل يصدر من ُمصّر على معصية أبدًا ،ول
يمكن مدمن الكبيرة والمصّرعلى الصغيرة أن يصفوا له التوحيد ،حتى ل يشرك بال شيئًا .هذا من أعظم
ظ له من أعمال القلوب ،بل قلبه كالحجر أو أقسى ،يقول :وما المانع؟ وما ي لح ّ
المحال .ول ُيلتفت إلى جدل ّ
وجه الحالة؟.
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله ،واعلم أن الصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير ال،
و رجائه لغير ال ،وحبه لغير ال ،وذله لغير ال ،وتوكله على غير ال ،ما يصير به منغمسًا في بحار
ل المعصية لبد أن يقوم بالقلبالشرك ،والحاكم في هذا ما يعلمه النسان من نفسه إن كان له عقل ،فإن ذ ّ
فيورثه خوفًا من غير ال ،وذلك شرك ،ويورثه محبة لغير ال ،واستعانة بغيره في السباب التي توصله إلى
غرضه ،فيكون عمله ل بال ول ل ،وهذا حقيقة الشرك(.26
ولعل السبب في هذه الفجوة بين التوحيد وبين لوازمه السلوكية والخلقية ما نسلكه في تعلمنا أو تعليمنا
لهذا الموضوع الجليل من الفصل بين التوحيد وبين لوازمه ومقتضياته بحجة أن هذا علم التوحيد ,وتلك
اللوازم تتعلق بعلم السلوك والخلق ,مما يؤدي إلى عرض التوحيد بعيدًا عن آثاره العملية ومقتضياته
السلوكية.
إن هذا العرض الناقص أورث -كما سبق ذكره -جملة من الثار السلبية المشاَهدة من التهاون في فعل
المحرمات وترك الواجبات ,وهذا يذّكرنا بما أورثه مسلك الرجاء في باب اليمان من الجرأة على انتهاك
المحارم والتعدي على حدود ال تعالى ؛ لن اليمان عند المرجئة هو التصديق ,والعمل خارج مسمى
اليمان ,ومن ثم يتعين تقرير التلزم بين الباطن والظاهر ,والتوحيد والسلوك ,كما قال المصطفى صلى
ال عليه وسلم ):أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر
الجسد ,أل وهي القلب( , 27فل يكون الظاهر مستقيمًا إل مع استقامة الباطن.28
كما أن إهمال تلك الجوانب العملية وإغفالها صّير هذا التوحيد مجرد جوانب معرفية فقط ,مع أن توحيد
العبادة هو توحيد الرادة والطلب ,فهو تعلق القلب بال تعالى ,ومحبة ال تعالى وإجلله وتعظيمه ,فالله
هو الذي تألهه القلوب محبة وخضوعًَا وخوفًَا ورجاًء.
24مدارج السالكين , 1/330وانظر جامع العلوم والحكم لبن رجب , 1/524وكلمت الخلص لبن رجب ص .26 -19
25أخرجه أحمد , 154 /5والترمذي ) ,(3534والدرامي ). (2791
26مدارج السالكين .327 , 1/326
27أخرجه البخاري ومسلم.
28انظر :مجموع الفتاوى لبن ،7/645 ،18/272الصفهانية ص .142
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 12
فكما أن اليمان ليس تصديقًا فحسب ,فكذا التوحيد ليس توحيدًا خبريًا علميًا فحسب ,فالواجب أن نحقق
التوحيد العملي – توحيد العبادة – بلوازمه ومقتضياته.
وبعد هذه التوطئة المهمة أذكر جملة من الثار السلوكية والتي تعد من لوازم توحيد العبادة
ومقتضياته ,وللقارئ الكّيس أن ُيعنى بها ,فإن كانت متحققة في واقعه فهذا هو المقصود ,وإن كانت
الخرى فعليه بالمجاهدة وصدق النابة إلى ال تعالى.
وهي قراءة ثابتة مشهورة .انظر :تفسير الطبري ,12/191و تفسير ابن الجوزي .4/210 31
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 13
وقد أشار الحسن البصري رحمه ال إلى هذا التلزم ,فقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته :ما أعددت
لهذا اليوم؟ قال الفرزدق :شهادة أن ل اله إل ال منذ ستين سنة ,قال الحسن :نعم العدة ,لكن لـ )ل اله إل
ال ( شروطًا ,فإياك وقذف المحصنة.36
ولما سئل الجنيد رحمه ال :بم يستعان على غض البصر؟ فقال) :بعلمك أن نظر ال إليك أسبق من نظرك
37
إليه(
ومن الجوانب السلوكية الناشئة عن هذا التوحيد :سلمة الصدر من الغل والحسد ,كما في حديث
ب حامل فقه غير فقيه ,ور ّ
ب ضر ال امرءًا سمع مقالتي فبّلغها ,فُر ّ المصطفى صلى ال عليه وسلم ) :ن ّ
ل عليهن قلب امرئ مسلم :إخلص العمل ل ,والنصح لئمة حامل فقه إلى من هو أفقه منه .ثلث ليغ ّ
المسلمين ,ولزوم جماعتهم (.38
ل والحسد.39 سك طُهر قلبه من الغ ّفهذه الخلل يصتصلح بها القلوب فمن تم ّ
وفي المقابل فإن التوحيد سبب في دفع شر الحساد وأذاهم ,وكما قال ابن القّيم) :فإذا جّرد التوحيد فقد خرج
من قلبه خوف ماسواه ,وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع ال ,بل يفرد ال بالمخافة وقد أمنه منه ,
ل به عن ل واشتغا ًوخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه ,وتجرد ل محبة وخشية وإنابة وتوك ً
غيره ,فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده ,وإل فلو جرد توحيده
لكان له فيه شغل شاغل ,وال يتولى حفظه والدفاع انه ,فإنه ال يدافع عن الذين آمنوا(.40
وكما قيل ) :من أحب ال لم يكن شيء عنده آثر من رضاه ,ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من
هوى نفسه(.41
إن من تعّلق قلبه بال وحده ,وصارت غايته مرضاة ربه تعالى ,وكانت الخرة همه ,فإنه يسلم من داء
ب الدنيا ,فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين ,وأما الخرة فل ضيق الحسد ,فإن منشأ الحسد ح ّ
فيها...42
ومن الثار السلوكية للتوحيد :الشجاعة والقدام ,فكلما زاد وعظم توحيد ال تعالى في نفس العبد ,كلما
زاد شجاعة وإقدامًا .ولما كان الخليلن – نبينا محمد صلى ال عليه وسلم ,وإبراهيم عليه السلم – أعظَم
الناس توحيدًا ,فكان في غاية الشجاة والقدام .
فعن أنس بن مالك رضي ال عنه قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم أحسن الناس ,وكان أجود
الناس ,وكان أشجع الناس ,ولقد فزع الناس ذات ليلة ,فانطلق ناس قبل الصوت ,فتلّقاهم رسول ال صلى
36انظر :آداب حسن البصري لبن الجوزي ص ,48وكلمة الخلص لبن رجب ص . 10
37انظر :كلمة الخلص لبن رجب ص . 46
38أخرجه أحمد ,5/183والترمذي ) ,(2658وابن ماجه ) , (243انظر مرويات هذا الحديث في كتاب دراسة حديث ) نضر ال امرءًا سمع
مقالتي( رواية ودراية لعبدالمحسن العّباد .
39انظر :مدارج السالكين , 2/90ودراسة حديث ) نضر ال امرءًا سمع مقالتي( لعبدالمحسن العّباد ص .191
40بدائع الفوائد , 2/274وانظر . 2/269
41انظر كلمة الخلص لبن رجب ص .32
42مختصر منهاج القاصدين لحمد بن قدامة ص .188
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 14
عرى ,في عنقه السيف ,وهو ال عليه وسلم راجعًا ,وقد سبقهم إلى الصوت ,وهو على فرس لبي طلحة ُ
يقول) :لم تراعوا ,لم تراعوا(.43
ف ّلُكْمحسبك من شجاعة إبراهيم الخليل عليه السلم أنه تحدى النمرود ,وكسر أصنام قومه ,وقال لهم ُ ):أ ّ
44
ل(
ن ا ِّن ِمن ُدو ِ َوِلَما َتْعُبُدو َ
عَلْيُكْم
ل ِبِه َ
ل َما َلْم ُيَنّز ْشَرْكُتم ِبا ّ ن َأّنُكْم َأ ْ
خاُفو َل َت َ
شَرْكُتْم َو َ ف َما َأ ْخا ُ ف َأ َوقال لمناظريه من المشركين َ) :وَكْي َ
45
ن( . ن ِإن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ لْم ِق ِبا َ
حّ ن َأ َ
ي اْلَفِريَقْي ِ
طانًا َفَأ ّ
سْل َُ
ب ِبَماع َ ن َكَفُروْا الّر ْ ب اّلِذي َ
سُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ وفي المقابل فإن الشرك سبب الرعب والخوف كما قال عز وجلَ ) :
طانًا(.46سْل َل ِبِه ُل َما َلْم ُيَنّز ْ
شَرُكوْا ِبا ّ َأ ْ
يقول شيخ السلم ابن تيمية ) :وكذلك المشرك يخاف المخلوقين ,ويرجوهم فيحصل له الرعب ,كما
طانًا( .الخالص من سْل َ
ل ِبِه ُ ل َما َلْم ُيَنّز ْشَرُكوْا ِبا ّ ب ِبَما َأ ْ ع َ ن َكَفُروْا الّر ْ ب اّلِذي َسُنْلِقي ِفي ُقُلو ِ قال تعالى َ ):
لْمنُ َوُهم ك َلُهُم ا َ ظْلٍم ُأْوَلـِئ َ
سوْا ِإيَماَنُهم ِب ُن آَمُنوْا َوَلْم َيْلِب ُالشرك يحصل له المن كما قال تعالى) :اّلِذي َ
ن( 47وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم هنا الظلم بالشرك .
48
ّمْهَتُدو َ
وأشار الفضيل بن عياض رحمه ال إلى ذلك بقوله :من حاف ال لم يضره أحد ,ومن خاف غير ال لم
ينفعه أحد .
49
وقال يحيى بن معاذ الرازي :على قدر خوفك من ال يهابك الخلق .
وقال يوسف بن أسباط ) :من خاف ال خاف منه كل شيء (.50
والستغناء عن الناس من أعظم لوازم توحيد العبادة وآثاره ,فمن توجه إلى ال تعالى بصدق الفتقار إليه ,
وتمام التعلق به ,فلم يلتفت قلبه إلى ما سواى ال تعالى ,فهو في غاية الستغناء عن الناس ,وأعظم الناس
قدرًافي قلوبهم.
يقول شيخ السلم ابن تيمية:
) والعبد كلما كان أذل ل وأعظم افتقار إليه وخضوعًا له ,كان أقرب إليه ,وأعّز له ,أعظم لقدره ,فأسعد
الخلق أعظمهم عبودية ل ,وأما المخلوق فكما قيل :احتج إلى من شئت تكن أسيره ,واستعن عمن شئت تكن
نظيره ,وأحسن إلى من شئت تكن أميره.
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ,فإن أحسنت إليهم مع
الستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم ,ومتى احتجت إليهم – ولو في شربت ماء – نقص قدرك عندهم
بقدر حاجتك إليهم ,وهذا من حكمة ال ورحمته ,لكون الدين كله ل ,وليشرك به شيئًا .
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 15
ب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه ,والخلق أهون ما يكون عليهم فالر ّ
51
أحوج ما يكون إليهم ( .
ويقول أيضًا:
)إن اعتماده على المخلوق وتوكله يوجب الضرر من جهته ,فإنه ُيخذل من تلك الجهة ,وهذا معلوٌم
بالعتبار والستقراء ,ما عّلق العبد رجاءه وتوكله بغير ال إل خاب من تلك الجهة ,ول استنصر بغير ال
ن ِبِعَباَدِتِهْم َوَيُكوُنو َ
ن سَيْكُفُرو َ
ل َ
عّزا}َ {81ك ّل آِلَهًة ّلَيُكوُنوا َلُهْم ِ
ن ا ِّ
خُذوا ِمن ُدو ِ
خذل ,وقال تعالىَ) :واّت َ إل ُ
53 52
ضّدا}. ( {82 عَلْيِهْم ِ
َ
ويقول في موضع ثالث :
)ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إل بأن يكون ال هو موله الذي ل يعبد إل إياه ,ول يستعين إل به ,
ول يتوكل إل عليه ,ول يفرح إل بما يحبه ويرضاه ,ول يكره إل ما يبغضه الرب ويكرهه ...فكل ما قوي
إخلص دينه ل كُملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات(.54
وقد بّين سلفنا الصالح أن من استغنى عن الناس ,فلم يحتج إليهم ,وصار هّمه وشغله مرضاة ربه تعالى
وحده ؛ فإن ال ُيحوج الناس إليه ,ويجعلهم ُيقبلون عليه ,فُتقضى حاجته ومطالبه ,وذلك فضل ال تعالى ,
وال ذو الفضل العظيم.
55
وقال مجاهد رحمه ال تعالى ) :وإن العبد إذا أقبل على ال تعالى ,أقبل ال بقلوب المؤمنين إليه( .
ج ال إليه الناس(.56 وقال سفيان بن عيينة) :من استغنى بال أحو َ
57
وقال يحيى بن معاذ الرازي) :على قدر شغلك بأمر ال تعالى تشتغل في أمرك الخلق( .
ويقول ابن القيم) :إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إل ال وحده ,تحمل ال حوائجه كلها ,وحمل عنه
كل ما أهمه ,وفرغ قلبه لمحبته ,ولسانه لذكره ,وجوارحه لطاعته.إن أصبح أمسى الدنيا همه ,حّمله ال
همومها وغمومـــها وأنكادها ,ووَكله إلى نفسه ,فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ,ولسانه عن ذكره
ح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه بذكرهم ,وجوارح عن خدمته بخدمتهم وأشغالهم ,فهو يكدح َكْد َ
ويعصر أضلعه في نفع غيره .فكل من أعرض عن عبودية ال وطاعته ومحبته ُ ,بلي بعبودية المخلوق
ومحبته وخدمته (.58
-3عبودية ال تعالى
قواعد ومسائل
هذه جملة قواعد ومسائل مـسـتفادة من كلم أهل العلم في موضوع عبودية لله
تعالى.
إن جميع الرسل عليهم السلم -من أولهم إلى آخرهم -دعوا إلى عبادة الله -
ه((ن إل َهٍ غ َي ُْر ُ م ْكم ّ ما َلــ ُ ه َ دوا الل ّ َ عبــ ُ
تعالى -وحده ل شريك له)) :يقوم ِ ا ْ
]العراف [59 :كما أن الله -عز وجل -قد جعل العبودية وصفا ً لكمل خلقه
عـْبــــدا ً ل ّل ّهِ َول ن َ كو َ ح َأن ي َ ُ سي ُ م ِ ف ال َ وأقربهم إليه فقال -سبحانهَ)) :لن ي َ ْ
سَتنك ِ َ
م إل َي ْ ِ
ه شُرهُ ْ ح ُ سي َ ْست َك ْب ِْر فَ َعَباد َت ِهِ وَي َ ْ
ن ِ ف عَ ْ سَتنك ِ ْ
من ي َ ْ ن وَ َ قّرُبو َ م َة ال ُ مـــلئ ِك َ ُ الـ َ
ميعًا(( ]النساء.[172 : ج َِ
ووصـــــــف الله تـعـالى أكرم خلقه عليه وأعلهم عنده منزلة صلى الله عليه
فْرَقا َ
ن ل ال ُ ذي ن َّز َ ك ال َ ِ وسلم بالعبودية في أشرف مقاماته ،فقال تـعـالـى)) :ت ََباَر َ
ذين ال َ ِحا َ سب ْ َذيرًا(( ]الفرقان ،[1 :وقال -سبحانهُ )) : ن نَ ِ
مي َ ن ل ِل َْعال َ ِ
كو َ ع ََلى ع َب ْد ِهِ ل ِي َ ُ
َ َ
صا (( ]السراء.[1 : جد ِ القْ َ س ِ م ْ حَرام ِ إَلى ال َ جد ِ ال َ
س ِم ْن ال َ م َ سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ل َي ْل ً ّ أ ْ
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم -إحسان العبودية أعلى مراتب الدين ،وهو
الحسان ،فقال في حديث جبريل -وقــد سأله عن الحسان) :أن تعبد الله كأنك
تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك( أخرجه مسلم.59
يمكن أن نخلص من خلل هذه المقدمة إلى قاعدة ،وهي :أن كمال المخلوق
في تحقيق عبوديته لله تعالى ،فأكرم ما يكون العبد عند الله تعالى كلما كان
أعظم عبادة وخضوعا ً لله -عز وجل.
يقول شيخ السلم ابن تيمية -رحمه الله) :كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله
-تعالى ،-وكلما ازداد العبد تحقيقا ً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته(.60
انظر :العبودية لبن تيمية ،ص 40ـ ،43ومدارج السالكين 1/101ـ .103 59
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 17
ويقول في موضع آخر) :والـعـبـد كـلـمـا كان أذل لله وأعظم افتقارا ً إليه وخضوعا ً
له ،كان أقرب إليه ،وأعّز له ،وأعظم لقدره ،فأسعد الخلق :أعظمهم عبودية لله،
ج إلى من شئت تكن أسيره ،واستغن عمن شئت وأما المخلوق فكما قيل :احت ْ
تكن نظيره ،وأحسن إلى من شئت تكن أميره .فأعظم ما يكون العبد قدرا ً
وحــرمــــة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ،فإن أحسنت إليهم مع
الستغناء عـنـهـــــــم ،كنت أعظم ما يكون عندهم ،ومتى احتجت إليهم -ولو في
شربة ماء -نقص قدرك عـنـدهــم بقدر حاجتك إليهم ،وهذا من حكمة الله
ورحمته ،ليكون الدين كله لله ول ُيشَرك به شيء(.61
وها هنا قاعدة أخرى ،وهي أن حاجة النسان وضرورته إلى عبادة الله -تعالى -
فوق كل حاجة وضرورة.
يقول ابن تيمية -في هذا الصدد) :اعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله ل
يشرك به شيئًا ،ليس له نظير فيقاس به ،لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة
الجسد إلى الطعام والشراب ،وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ،وهي ل صلح لها إل بإلهها ،الله الذي ل إله إل هو
فل تطمئن في الدنيا إل بذكره ،وهي كادحة إليه كدحا ً فملقيته ،ول بد لها من
لقائه ،ول صلح لها إل بلقائه.
ذات أو سرور بغير الله فل يدوم ذلك ،بل ينتقل من نوع إلى ولو حصل للعبد ل ّ
نوع ،ومن شخص إلى شخص ،و يتنعم بهذا في وقت وفي بعض الحوال وتارة
أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ به غير منعم له ول ملتذ به ،بل قد يؤذيه
اتصاله به ووجوده عنه ،ويضره ذلك .وأما إلهه فل بد له منه في كل حال وكل
وقت ،وأينما كان فهو معه(.62
ويقول ابن القيم -مقررا ً تلك الحاجة) :اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله
وحده ل يشرك به شيئا ً في محبته ،ول في خوفه ،ول في رجائه ،ول في التوكل
عليه ،ول في العمل له ،ول في الحلف به ،ول في النذر له ،ول في الخضوع له،
ول في التذلل والتعظيم ،والسجود والتقرب ،أعظم من حاجة الجسد إلى روحه،
والعين إلى نورها ،بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه
وقلبه ،ول صلح لها إل بإلهها الذي ل إله إل هو ،فل تطمئن في الدنيا إل بذكره..
ول صلح لها إل بمحبتها وعبوديتها له ،ورضاه وإكرامه لها(.63
ل ،يقال :بعير معّبد ،أي مذلل. ة :من الذ ّوأما عن تعريف العبادة ،فالعبادة لغ ً
وعت أقوال العلماء في تعريف العبادة: وقد تن ّ
مجموع الفتاوى.1/39 ، 61
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 18
فقال ابن جرير) :معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة ،والتذلل له بالستكانة(،64
سر ابن عباس -رضي الله عنهما -العبادة بالتوحيد.65 وف ّ
وقال القاضي أبو يعلى) :حقيقة العبادة هي الفعال الواقعة لله -عز وجل -على
نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد(.66
وقال شيخ السلم ابن تيمية) :العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه
من القوال والعمال الظاهرة والباطنة(.67
صل ابن القيم التعريف السابق بقوله) :وبنى )إياك نعبد( على أربع قواعد: وف ّ
التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب ،وعمل القلب
والجوارح .فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الربع ،فأصحاب )إياك نعبد( حقا ً
هم أصحابها ،فقول القلب :هو اعتقاد ما أخبر الله -سبحانه -به عن نفسه ،وعن
أسمائه وصفاته وأفعاله وملئكته ولقائه على لسان رسله.
ب عنه وتبين بطلن البدع وقول اللسان :الخبار عنه بذلك ،والدعوة إليه والذ ّ
المخالفة له ،والقيام بذكر وتبليغ أوامره.
وعمل القلب :كالمحبة له ،والتوكل عليه ،والنابة إليه ،والخوف منه ،والرجاء له،
وإخلص الدين له ،والصبر على أوامره ،وعن نواهيه ،وعلى أقداره ،وغير ذلك من
أعمال القلوب.
وأعمال الجوارح :كالصلة والجهاد ،ومساعدة العاجز والحسان إلى الخلق ،ونحو
ذلك(.68
طراد عرفي ول اقتضاء عقلي(.69 وقال بعضهم) :العبادة ما أمر به شرعا ً من غير ا ّ
وبالنظر إلى هذه التعريفات المتعددة فإن الخلف بينها يكاد أن يكون من خلف
التنوع؛ وذلك أن العبادة قائمة على أصلين كبيرين ،وهما :غاية الخضوع وكماله،
ب وكماله .فعّرف ابن جرير وأبو يعلى العبادة بالخضوع -والسلف قد وغاية الح ّ
يعّرفون الشيء ببعض أفراده -ومرادهم بالخضوع هاهنا ما كان مقترنا ً بالمحبة
والتعظيم كما هو ظاهر عبارة أبي يعلى في قوله) :نهاية ما يمكن من التذلل
والخضوع( فنهاية الخضوع وكماله ل تتحقق إل بالمحبة والتعظيم.
وأما ابن تيمية وابن القيم فقد عّرفا العبادة بما يحبه الله ويرضاه باعتبار أن
ب ..ولذا يقول ابن تيمية) :فأصل المحبة المحمودة العبادة هي أعلى مراتب الح ّ
مجموعة التوحيد )رسالة في تعريف العبادة لبي بطين( ،ص .400 69
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 19
خلقَ خلقه لجلها ،هي ما في عبادته وحده ل شريك له؛ إذ التي أمر الله بها ،و َ
70
العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل( .
وأما تعريف ابن عباس -رضي الله عنهما -للعبادة بالتوحيد ،فهو اعتبار العبادة
المقبولة ،فل تقبل العبادة عند الله -تعالى -إل بتحقيق التوحيد ،وأما العبادة من
حيث هي فهي أعم من كونها توحيدا ً عاما ً مطلقًا ،فكل موحد عابد لله -تعالى ،-
وليس كل من عبد الله -تعالى -يكون موحدا ً.71
طراد عرفي ول اقتضاء عقلي، وأما من عّرف العبادة بما أمر به شرعا ً من غير ا ّ
فهو باعتبار أن الشرع هو مورد العبادة وضابطها ،فل تخضع العبادة لطراد
العرف ،بل قد تكون مضادة لعوائد وأعراف ،كما أن العبادة ل تخضع لقتضاء
العقل واستحسانه؛ فمن العبادات الشرعية ما تكون محّيرة للعقول ,والله أعلم.
ب ل يكون ب الخلي عن ذل ،والذل الخلي عن ح ّ ومن قواعد هذا الموضوع :الح ّ
ل وغايته.ب وغايته ،وكمال الذ ّ عبادة؛ فالعبادة ما يجمع كمال المرين :كمال الح ّ
ب شيئا ً ً
يقول ابن تيمية) :من خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابدا له ،ولو أح ّ
ب الرجل ولده وصديقه ،ولهذا ل يكفي ولم يخضع له لم يكن عابدا ً له ،كما قد يح ّ
ب إلى العبد من كل أحدهما في عبادة الله -تعالى ،-بل يجب أن يكون الله أح ّ
شيء ،وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ،بل ل يستحق المحبة والخضوع
التام إل الله(.72
ويقول ابن القّيم) :والعبادة تجمع أصلين :غاية الحب بغاية الذل والخضوع؛ فمن
أحببته ولم تكن خاضعا ً له ،لم تكن عابدا ً له ،ومن خضعت له بل محبة ،لم تكن
عابدا ً له ،حتى تكون محبا ً خاضعًا(.73
ومن القواعد أيضًا :كل من استكبر عن عبادة الله -تعالى ،-فل بد أن يعبد غيره.
يقرر ابن تيمية ذلك بقوله) :الستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم
استكبارا ً عن عبادة الله ،كان أعظم إشراكا ً بالله؛ لنه كلما استكبر عن عبادة الله
-تعالى ،-ازداد فقرا ً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود(.
فل بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته ،فمن لم يكن الله معبوده
ومنتهى حبه من إرادته ،بل استكبر عن ذلك ،فل بد أن يكون له مراد محبوب
يستعبده غير الله ،فيكون عبدا ً لذلك المراد المحبوب :إما المال ،وإما الجاه ،وإما
الصور ،وإما ما يتخذه إلها ً من دون الله(.74
70قاعدة في المحبة )ضمن جامع الرسائل( ،2/196 ،وانظر مدارج السالكين.3/28 ،
71انظر مجموعة التوحيد ،ص .401
مد َْركة حكمتها للعقول. )*( أي غير ُ
72العبودية ،ص ،44وانظر مجموع الفتاوى.56 ،10/19 ،
73مدارج السالكين.1/74 ،
74العبودية ،ص 112ـ 1114؛ بتصرف وتقديم.
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 20
ويقول في موضع آخر ) :وهكذا أهل البدع ل تجد أحدا ً ترك بعض السنة التي
يجب التصديق بها والعمل إل وقع في بدعة ،ول تجد صاحب بدعة إل ترك شيئا ً
من السنة ،كما جاء في الحديث) :ما ابتدع قوم بدعة إل تركوا من السنة مثلها(.75
َ
ضاَء((داوَة َ َوال ْب َغْ َ
م العَ َ ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَأغ َْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ
م ّحظا ً ّ
سوا َ وقد قال -تعالى)) :فَن َ ُ
]المائدة ،[14 :فلما تركوا حظا ً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره ،فوقعت بينهم
من م َول ت َت ّب ُِعوا ِ من ّرب ّك ُ ْ كم ّ ل إل َي ْ ُما ُأنزِ َ
العداوة والبغضاء ،وقال تعالى)) :ات ّب ُِعوا َ
َ
ن(( ]العراف [3 :فأمر باتباع ما أنزل ،ونهى عما يضاد ما ت َذ َك ُّرو َ
دون ِهِ أوْل َِياَء قَِليل ً ّ
ُ
ذلك وهو اتباع أولياء من دونه ،فمن لم يتبع أحدهما اتبع الخر.
وكذلك من لم يفعل المأمور ،فعل بعض المحظور ،ومن فعل المحظور ،لم يفعل
جميع المأمور ،فل يمكن لنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما
حظر ،ول يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر(.76
ويقول ابن القيم -رحمه الله ) :كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده ،وقع
في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ول بد ،حتى في العمال ،فمن
رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتله الله بالعمل لوجوه الخلق ،فرغب عن
العمل لمن ضّره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده ،فابتلي بالعمل لمن ل يملك
له شيئا ً من ذلك ،وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه
لغير الله وهو راغم ،وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة
د ،وكذلك من رغب عن الهدى بالوحي ،ابتلي بكناسة الراء وزبالة الخلق ول ب ّ
الذهان ووسخ الفكار(.77
ل) :لما كان من العوائد لمة عبد الرحمن السعدي هذه القاعدة قائ ً ويؤكد الع ّ
القدسية والحكمة اللهية أن من ترك ما ينفعه وأمكن النتفاع به ولم ينتفع ،ابتلي
بالشتغال بما يضره ،فمن ترك عبادة الرحمن ،ابتلي بعبادة الوثان ،ومن ترك
محبة الله وخوفه ورجاءه ،ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه ،ومن لم ينفق
ل لربه ،ابتلي بالذل ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ،ومن ترك الذ ّ
للعبيد ،ومن ترك الحق ابتلي بالباطل(.78
ومن أجل مسائل هذا الموضوع :العبودية الباطنة والقيام بعبودية القلب؛ فإن
أعمال القلب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ،وعبودية القلب أعظم من
عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ،فهي واجبة في كل وقت.79
75أخرجه أحمد ،4/105 ،ولفظه )ما أحدث قوم بدعة إل رفع مثلها من السنة(.
76مجموع الفتاوى )اليمان( 174 ،7/173؛ باختصار .وانظر اقتضاء الصراط المستقيم ،2/617 ،ومجموع
الفتاوى.29/329 ،
77مدارج السالكين ،1/165 ،وانظر الفوائد ،ص .27
78تفسير السعدي.1/18 ،
79انظر بدائع الفوائد لبن القيم.3/230 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 21
وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها ،وكان لشتغالهم
بالرسوم والمظاهر ،وتأثرهم بالنزعة الرجائية الكلمية أبلغ الثر في إهمال أعمال
القلوب وعبوديتها ،فما أكثر من اسُتعبد قلبه لغير الله -تعالى -من الشهوات
ب المال ،وطائفة صار همها وشغلها المنصب والملذات ،فطائفة أشربت ح ّ
والوظيفة والرياسة ،وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها بالنساء ،وطائفة أخرى صار
مقصودها سفاسف المور من مطعوم أو ملبوس أو مركوب ،أو )كرة( أو عبث
ولهو ،أو )فن(.
مه ومقصوده المال ،فل يصبح ول فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجّيراه؛ فه ّ
يمسي إل وهمه المال ،فمن أجله يوالي ويعادي ،فإن أعطي رضي ،وإن منع
سخط.
لقد تحدث علماء السلف -رحمهم الله -عن عبودية القلب ،فكان حديثا ً عن علم
وبصيرة وذوق وتحقيق.
طره يراع شيخ السلم ابن تيمية إذ يقول) :إذا كان القلب -الذي ومن ذلك ما س ّ
سر المحض، هو ملك الجسم -رقيقا ً مستعبدًا ،متيما ً لغير الله ،فهذا هو الذل وال ْ
والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ..فمن اسُتعبد قلبه
فصار عبدا ً لغير الله ،فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب ،والعبودية عبودية القلب ،كما أن الغنى غنى النفس ،قال
النبي صلى الله عليه وسلم) :ليس الغنى عن كثرة العرض ،وإنما الغنى غنى
النفس( أخرجه الشيخان.
وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ،فأما من استعبد قلبه صورة
محرمة :امرأة ،أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي ل يدانيه عذاب(.80
ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله) :النابة هي عكوف القلب على الله -عز
وجل ،-كاعتكاف البدن في المسجد ل يفارقه ،وحقيقة ذلك عكوف القلب على
محبته وذكره بالجلل والتعظيم ،وعكوف الجوارح على طاعته بالخلص له
والمتابعة لرسوله ،ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل
م ل ََها َ َ
ن((
فو َ
عاك ِ ُ ل ال َِتي أنت ُ ْ
ماِثي ُ
ما هَذ ِهِ الت ّ َ
المتنوعة ،كما قال إمام الحنفاء لقومهَ )) :
]النبياء [52 :فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف ،فكان حظ قومه العكوف على
ب الجليل .والتماثيل جمع تمثال ،وهي التماثيل ،وكان حظه العكوف على الر ّ
الصور الممثلة ،فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على
التماثيل التي قامت بقلبه ،وهو نظير العكوف على تماثيل الصنام ،ولهذا كان
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 22
شرك عباد الصنام بالعكوف بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم ،فإذا كان
في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا ً عليها فهو نظير عكوف
الصنام عليها ،ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم -عبدا ً لها ،ودعا عليه
بالتعس والنكس ،فقال) :تعس عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم .تعس وانتكس ،وإذا
شيك فل انتقش.82(81
وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما قال:
)وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلت قلوبهم من معرفة الله ،وغمرت بمحبته
وخشيته وإجلله ومراقبته ،فسَرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ول
ب ،قد أنساهم حّبه ذكر غيره ،وأوحشهم أنسهم به ممن مفصل إل وقد دخله الح ّ
ب من سواه ،وبذكره عن ذكر من سواه ،وبخوفه سواه ،قد فنوا بحبه عن ح ّ
ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه ،والتوكل عليه والنابة إليه ،والسكون إليه
والتذلل والنكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره ،فإذا وضع أحدهم جنبه
مه عليه متذكرا ً صفاته على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه وموله ،واجتمع ه ّ
العلى وأسمائه الحسنى ،مشاهدا ً له في أسمائه وصفاته ،قد تجلت على قلبه
أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته ،فبات جسمه في فراشه يتجافى عن
مضجعه ،وقلبه قد أوى إلى موله وحبيبه فآواه إليه ،وأسجده بين يديه خاضعا ً
ذليل ً منكسرا ً من كل جهة من جهاته .فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة ،ل يرفع
رأسه منها إلى يوم اللقاء ،وقيل لبعض العارفين :أيسجد القلب بين يدي ربه؟
قال :إي والله ،بسجدة ل يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة(.83
ل) :إن تحقق القلب بمعنى ل إله إل الله ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائ ً
ل ،وهيبة، وصدقه فيها ،وإخلصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأّله الله وحده ،إجل ً
ل ،ويمتلئ بذلك ،وينتفي عنه تأله ما سواه ومخافة ،ومحبة ،ورجاء ،وتعظيمًا ،وتوك ً
من المخلوقين ،ومتى كان كذلك ،لم يبق فيه محبة ،ول إرادة ،ول طلب لغير ما
يريده الله ويحبه ويطلبه ،وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها،
ب عليه وأبغض عليه فهو إلهه، ب شيئا ً و أطاعه ،وأح ّووساوس الشيطان ،فمن أح ّ
فمن كان ل يحب ول يبغض إل لله ،ول يوالي ول يعادي إل له ،فالله إلهه حقًا،
ب لهواه ،وأبغض لهواه ،ووالى عليه ،وعادى عليه ،فإلهه هواه(.84 ومن أح ّ
طره الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن ونختم هذه المسألة الجليلة بمثال عملي س ّ
عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما -حيث باع حمارا ً له ،فقيل له :لو أمسكته!
أخرجه البخاري في الجهاد والسير حديث 2887والترمذي في الزهد ،2375وابن ماجة في الزهد .4136 81
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 23
فقال :لقد كان لنا موافقًا ،ولكنه أذهب بشعبة من قلبي ،فكرهت أن أشغل قلبي
بشيء.85
فما أتم عبادة ابن عمر لله -تعالى ،-و أكمل توحيده وعكوف قلبه على الله -عز
وجل -فهو لما رأى التفاتا ً تجاه هذا الحمار ،بادر إلى بيعه والتخلص منه مع كونه
موافقا ً له ..فشتان بين هذا المقام الرفيع وبين من تفّرق قلبه في أودية الدنيا
وملذاتها ،فصارت جل شعب قلبه متعلقة بمال ،أو امرأة ،أو منصب ووظيفة،
والله المستعان.
ل قواعد هذا الموضوع :أن عبودية الله -تعالى -ملئمة لحقيقة النسان ومن أج ّ
جب ِّلته ،ومستوعبة لمقاصده وأعماله.
و ِ
وقد ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم) : -أصدق السماء حارث
مام( 86فكل إنسان همام أي مريد ومفكر ،وكل همام حارث أي صاحب عمل وه ّ
وكسب وسعي ،وعبودية الله -تعالى -مناسبة للفطرة فتتسق وتتفق مع طبيعة
النسان وحقيقته ،وتستوعب كل نشاطه وحركته هما ً وحرثا ً.87
كد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله) :العبد مجبول على وقد أ ّ
أن يقصد شيئا ً ويريده ،ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده؛ وهذا أمر
حتم لزم ضروري في حق كل إنسان(.
فإذا تدبر النسان حال نفسه وحال جميع الناس ،وجدهم ل ينفكون عن هذين
المرين :ل بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها ،وهو إلهها ،ول بد
لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها ،سواءا ً كان ذلك
هو الله أو غيره ،وإذا كان فقد يكون عاما ً وهو الكفر ،كمن عبد غير الله مطلقًا،
بوسأل غير الله مطلقًا ...وقد يكون خاصا ً في المسلمين مثل من غلب عليه ح ّ
ب شخص ،أو حب الرياسة حتى صار عبد ذلك.88 المال ،أو ح ّ
مجموع الفتاوى ،35 ،1/34 ،باختصار .وانظر ،1/21وجامع الرسائل )قاعدة في المحبة(.2/231 ، 88
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 24
عبودية الشهوات
التعلق بالله ـ عز وجل ـ وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى شهادة أن ل
إله إل الله ،والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المستحق وحده أن يكون المقصود
والمدعو والمطلوب.
يقــول الـشــيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ) :إن الله هو المقصود
89
والمعتمد عليه ،وهذا أمر هّين عند من ل يعرفه ،كبير عظيم عند من يعرفه( .
الدرر السنية ،2/21 ،وانظر :تاريخ ابن غنام ،298 ،2/52وانظر :مجموع فتاوى ابن تيمية .1/34 89
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 25
العبودية ص ،114-112بتصرف ،وانظر :مجموع الفتاوى ،187-10/185والفوائد لبن القيم ص .186 90
روضة المحبين ،ص ،11وانظر :ذم الهوى ،لبن الجوزي ،ص .35 91
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 26
لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما
يشتهيه حتى يقهره ويملكه ،ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصّرف ذلك
المطلوب.
فـمــا يـمـثـلــه النسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره ،فل يقدر
قلبه على المتناع منه؛ فـيـبـقـى مستغرقا ً في تلك الصورة ..والقلب يغرق فيما
يستولي عليه :إما من محبوب وإما من مـخــوف ،كما يوجد من محبة المال
والجاه والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقا ً كما يغرق الغريق
في الماء.92(...
وقد قال المام الشافعي ـ رحمه الله ـ) :من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء
الدنيا(.93
وإذا كان الفراط والنهـمــاك في الشهوات مذموما ً شرعًا ،كما قال ـ عز وجل ـ:
غيًا((ن َ ف ي َل ْ َ خل ْ ٌ َ خل َ َ
قو ْ َ ت فَ َ
سو ْ َ وا ِ صلة َ َوات ّب َُعوا ال ّ
شه َ َ عوا ال ّ
ضا ُ
فأ َ م َ
ن ب َعْد ِه ِ ْ
م ْ
ف ِ ))فَ َ
ل؛ فإن العاقل البصير ينظر في ]مريم[59 :؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عق ً
عواقب المور ،فل ي ُؤ ْث ُِر العاجلة الفانية على الخرة الباقية.
يقول ابن الجوزي ـ رحمــه الله ـ) :اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة
ل ،وإن الحاضرة من غير فكر في عاقبة ،ويحث على نـيـل الـشـهــوات عـاجـــ ً
ذات في الجل(. كانت سببا ً لللم والذى في العاجل ،ومنع ل ّ
فـأمـــا العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم ،وشهوة ُتورث ندمًا ،وكفى
بهذا القدر مدحا ً للعقل وذما ً للهوى.
وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالبًا ،وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم
العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الجلة ،ويأمره عند وقوع الشبهة
باستعمال الحوط في كف الهوى ،إلى أن يتيقن السلمة من الشر في العاقبة(.94
ولـيـعـلــم العبد أن الصبر عن الشهوات ـ وما فيها من الغراء والبريق والفتتان ـ
أيسر من الصبر عـلـى عــواقب الشهوات وآلمها وحسراتها ،كما بينه ابن القيم
بقوله) :الصبر عن الشهوة أسهل مـن الصبر على ما توجبه الشهوة ،فإنها إما أن
توجب ألما ً وعقوبة ،وإما أن تقطع لذة أكمل مـنـهـــــا ،وإما أن تضيع وقتا ً إضاعته
حسرة وندامة ،وإما أن تثلم عرضا ً توفيره أنفع للعبد من ثـلـمـــه ،وإما أن ُتذهب
مال ً بقاؤه خير له من ذهابه ،وإما أن تضع قدرا ً وجاها ً قيامه خير من
وضـعـــــــــه ،وإمـا أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة ،وإما أن
تطرق لوضيع إليك طريـقــا ً لم يكن يجدها قبل ذلك ،وإما أن تجلب هما ً وغما ً
مجموع الفتاوى ،595 ،10/594 ،بتصرف يسير. 92
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 27
وحزنا ً وخوفا ً ل يقارب لذة الشهوة ،وإما أن تنـســي علما ً ذكره ألذ من نيل
الشهوة ،وإما أن ُتشمت عدوا ً وتحزن وليًا ،وإما أن تقطع الطريق على نعمة
مقبلة ،وإما أن تحدث عيبا ً يبقى صفة ل تزول؛ فإن العمال تورث الصفات
والخلق(.95
ومما يحسن ذكره هاهنا أن أعرابيا ً عشق امرأة ,فطال به وبها المر ,فلما التقيا
شَعبها ,ذكر الدار الخرة ,فقال :والله إن امرءا ً باع جنة
وتمكن منها وصار بين ُ
عرضها السماوات والرض بفْتر 96بين رجليك لقليل البصر بالمساحة.97
الفتر :ما بين طرف البهام زطرف السبابة بالتفريج المعتاد .انظر :المصباح المنيرص .552 96
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 28
شهوة النساء
وأما عن شهوة النساء ،أو بالحرى شهوة الجنس ـ عموما ً ـ فإن المتأمل في
سعارا ً تجاه هذه الشهوات ،وولوغا ً أحوال المسلمين ـ فضل ً عمن دونـهـم ـ يرى ُ
في مستنقعاتها السنة ،فما أكـثـر المـسـلـمـين العاكفين على متابعة الطباق
مروا أعيـنـهـم في سبيل مــلحقة برامج الفضائية وشبكات )النترنت( ،وقد س ّ
دون رحالهم إلى بلد الكفر والفجور في سبيل تلبية الفحش ،وما أكثر الذين يش ّ
شهواتهم المحرمة ،والله المستعان.
مارة بالسوء على إفساد عفاف لقد تكالب شياطين النس والجن مع النفوس ال ّ
َ
ن ريد ُ ال َ ِ
ذي َ ب ع َل َي ْك ُ ْ
م وَي ُ ِ ريد ُ أن ي َُتو َ المسلمين وأخلقهم ،قال ـ سبحانه ـَ)) :والل ّ ُ
ه يُ ِ
ظيمًا((] .النساء[27 : َ
مي ْل ً ع َ ِميُلوا َ
ت أن ت َ ِ
وا ِ ن ال ّ
شه َ َ ي َت ّب ُِعو َ
ومما يجدر ذكره أن من أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة ل حد له
ول انقضاء ،وإذا كان الشخص المولع بالدنيا ل يشبع من المال ـ كما في الحديث:
98
)لو كان لبن آدم واديان من ذهب لبتغى ثالثًا ،ول يمل جوف ابن آدم إل التراب(
ـ ،فكذلك الشخص المولع بشهوة الجنس بدون ضابط أو رادع ل يقف ول يرعوي.
ت مال قارون ،وجسد هرقل ،وواصلتك يقول الشيخ علي الطنطاوي) :لو أوتي َ
عشر آلف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع الجمال،
هل تظن أنك تكتفي؟ ل ،أقولها بالصوت العالي :ل ،أكتبها بالقلم العريض ،ولكن
فتم حولكم وجدتم في واحدة بالحلل تكفيك .ل تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تل ّ
الحياة الدليل قائما ً ظاهرا ً مرئيًا(.99
وجاء في الدب الكبير ،لبن المقفع) :100اعلم أن من أوقع المور في الدين،
وأنهكها للجسد ،وأتلفها للمال ،وأجلبها للعار ،وأزراها للمروءة ،وأسرعها في
ذهاب الجللة والوقار :الغرام بالنساء .ومن العجب أن الرجل ل بأس بلّبه ورأيه
حسن والجمال حتى ور لها في قلبه ال ُ يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها ،فيص ّ
تعلق بها نفسه من غير رؤية ول خبر مخبر ،ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح،
م الدمامة ،فل يعظه ذلك؛ ول يقطعه عن أمثالها ،ول يزال مشغوفا ً بما لم وأد ّ
يذق ،حتى لو لم يبق في الرض غير امرأة واحدة ،لظن أن لها شأنا ً غير شأن ما
ذاق ،وهذا هو الحمق والشقاء والسفه(.
إن أشد الفتن وأعظمها :الفتنـة بالنسـاء ،كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: -
)ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء(.101
ضِعيفًا(( ]النساء) ،[28 :إذا نظر ن َ
سا ُ
خل ِقَ الن َ
قال المام طاووس عند قوله)) :وَ ُ
إلى النساء لم يصبر(.102
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ )لم يكن كفر من مضى إل من ِقبل النساء،
وهو كائن كفر من بقي من ِقبل النساء(.103
وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله :عشق
النساء.
فأما الحكاية الولى:
فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله) :بلغني عن رجل كان ببغداد ُيقال له:
ذن أربعين سنة ،وكان ُيعرف بالصلح ،أنه صعد يوما ً إلى المنارة صالح المؤذن ،أ ّ
ليؤذن ،فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد ،فافتتن بها ،فجاء
فطرق الباب ،فقالت :من؟ فقال :أنا صالح المؤذن ،ففتحت له ،فلما دخل ضمها
إليه ،فقالت :أنتم أصحاب المانات فما هذه الخيانة؟ فقال :إن وافقتني على ما
أريد وإل قتلتك .فقالت :ل؛ إل أن تترك دينك ،فقال :أنا بريء من السلم ومما
جاء به محمد ،ثم دنا إليها ،فقالت :إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى
ب
ل من لحم الخنزير ،فأكل ،قالت :فاشرب الخمر ،فشرب ،فلما د ّ دينك ،فك ُ ْ
الشراب فيه دنا إليها ،فدخلت بيتا ً وأغلقت الباب ،وقالت :اصعد إلى السطح حتى
فته في ثوب ،فجاء إذا جاء أبي زّوجني منك ،فصعد فسقط فمات ،فخرجت فل ّ
صت عليه القصة ،فأخرجه في الليل فرماه في السكة ،فظهر حديثه، أبوها ،فق ّ
104
فُرمي في مزبلة( .
أما الحكاية الثانية:
ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما
يلي:
)وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم ـ قبحه الله ـ ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي
كان من المجاهدين كثيرا ً في بلد الروم ،فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون
يحاصرون بلدة من بلد الروم ،إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك
الحصن ،فهويها ،فراسلها :ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت :أن تتنصر وتصعد
ي ،فأجابها إلى ذلك ،فما راع المسلمين إل وهو عندها ،فاغتم المسلمون بسبب إل ّ
أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والستغفار .2741 ،274 ،والترمذي في الدب .2780 101
انظر :ذم الهوى ،لبن الجوزي ص ،179وروضة المحبين ،ص .203 102
انظر :ذم الهوى ،لبن الجوزي ،ص ،178وروضة المحبين ص .197 103
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 30
ذلك غما ً شديدًا ،وشق عليهم مشقة عظيمة ،فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو
مع تلك المرأة في ذلك الحصن ،فقالوا :يا فلن ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟
ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلتك؟ فقال :اعلموا أني ُأنسيت
م ي َا ًك ُُلوان)(2ذ َْرهُ ْ
مي َ
سل ِ ِ
م ْ فُروا ل َوْ َ
كاُنوا ُ ن كَ َ ما ي َوَد ّ ال َ ِ
ذي َ ن كله إل قولهّ)) :رب َ َ القرآ َ
َ
ن(( ]الحجر [3 ،2 :وقد صار لي فيهم مال مو َ ف ي َعْل َ ُسوْ َ ل فَ َ م ُ مت ُّعوا وَي ُل ْهِهِ ُ
م ال َ وَي َت َ َ
105
وولد( .
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة ،وأدناها:
سماع الغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا ،وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد) :يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء ،ويزيد في
كر ،فإن كنتم س ْ الشهوة ،ويهدم المروءة ،وإنه لينوب عن الخمر ،ويفعل ما يفعل ال ّ
ل بد فاعلين فجّنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا(.106
قال ابن القيم) :ومن المر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على
الرجل اجتهد أن ُيسمعها صوت الغناء ،فحينئذ ٍ تعطي الليان(؛ وهذا لن المرأة
سريعة النفعال للصوات جدًا ،فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين:
من جهة الصوت ،ومن جهة معناه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
لنجشة حاديه) :يا أنجشة رويدك ،رفقا ً بالقوارير( 107يعني النساء.
دف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر ،فلو )أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية ال ّ
حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا ،وكم من حّر أصبح به عبدا ً
دل به اسما ً قبيحا ً بين البرايا ،وكم من معافى للصبيان أو الصبايا ،وكم من غيور تب ّ
تعّرض له فأمسى وقد حّلت به أنواع البليا( .
108
ومن أشد الوسائل فتكًا :النظر المحرم ،فكم من نظرة إلى صورة جميلة ـ في
السوق أو في شاشة أو مجلة ـ أعقبت فواحش وآلما ً وحسرات .قال المام أحمد
ـ رحمه الله ـ) :إذا خاف الفتنة ل ينظر ،كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها
البلبل(.109
يقول ابن الجوزي محذرا ً من إطلق البصر) :اعلم ـ وفقك الله ـ أن البصر صاحب
خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات ،وينقش فيه صورها فيجول فيها الفكر،
فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الخرة .ولما كان إطلق البصر سببا ً
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 31
ض البصر عما ُيخاف عواقبه .قال الله ـ لوقوع الهوى في القلب ،أمرك الشارع بغ ّ
تعالى ـُ)) :قل ل ّل ْمؤ ْمِنين يغُضوا م َ
تمَنا ِ مؤ ْ ِ م(( ]النور)) .[30 :وَُقل ل ّل ْ ُ صارِه ِ ْ ن أب ْ َ ِ ْ ُ ِ َ َ ّ
مسبب هذا السبب ،ونّبه على يغْضضن م َ
ن(( ]النور .[31 :ثم أشار إلى ُ صارِه ِ ّ
ن أب ْ َ َ ُ ْ َ ِ ْ
ن
فظ َْ ح َ م(( ]النور)) ،[30 :وَي َ ْ فظوا فُُرو َ
جه ُ ْ ُ ح َ
ما يؤول إليه هذا الشر بقوله)) :وَي َ ْ
ن(( ]النور.110([31 : فُُرو َ
جه ُ ّ
وقد تحدث شيخ السلم ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن النظر المحرم وما يؤول إليه
من الوقوع في الفواحش ..بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ
فكان مما قاله) :وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر ،فإن
أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة ،وقد يكون الصرار على ذلك أعظم
من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق
والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا ل إصرار عليه؛ ولهذا قال
الفقهاء في الشاهد العدل :أن ل يأتي كبيرة ،ول يصر على صغيرة.
ن
م َ بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك ،كما قال ـ تعالى ـ)) :وَ ِ
َ
ه(( ]البقرة ،[165 :ولهذا ل ب الل ّ ِح ّ م كَ ُحّبون َهُ ْ دادا ً ي ُ ِن الل ّهِ أن َ
دو ِمن ُ خذ ُ ِ من ي َت ّ ِس َالّنا ِ
يكون عشق الصور إل من ضعف محبة الله وضعف اليمان .والله ـ تعالى ـ إنما
ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة ،وعن قوم لوط المشركين(.111
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ) :وقد جعل الله ـ سبحانه ـ العين مرآة القلب فإذا
ض القلب شهوته وإرادته ،وإذا أطلق بصره أطلق القلب ض العبد بصره ،غ ّ غ ّ
شهوته(.
ـ إلى أن قال ـ والنظرة إذا أّثرت في القلب ،فإن عجل الحازم وحسم المادة من
قب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب أولها سُهل علجه ،وإن كرر النظر ون ّ
فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة ،وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي
الشجرة ،فل تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما
أمر به ،فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن(.112
ومن أشد الوسائل ضررا ً وشرًا :اختلط النساء بالرجال؛ فإن هذا الختلط أنكى
وسيلة في النغماس في الفواحش والقاذورات ،وقد كثر في هذا الزمان من
يطالب بهذا الختلط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع
المجالت والعمال ،زاعمين أنهم يريدون الخير والصلح لمجتمعاتهم ،أل أنهم هم
المفسدون ولكن ل يشعرون.
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 32
قال ابن القيم متحدثا ً عن مفاسد الختلط) :ول ريب أن تمكين النساء من
اختلطهن بالرجال أصل كل بلية وشر ،وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات
العامة ،كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة ..وهو من أسباب الموت
العام والطواعين المهلكة .ولما اختلط البغايا بعسكر موسى ـ عليه السلم ـ
وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون
ألفًا ،والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة
الزنا بسبب تمكين النساء من اختلطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات
متجملت(.113
وها هنا أمر مهم بنبغي التنبيه عليه ،وهو أن الولع والنكباب على الشهوات سببه
ضعف التوحيد ،فإن القلب كلما كان أضعف توحيدا ً وأقل إخلصا ً لله ـ تعالى ـ كان
أكثر فاحشة وشهوة.114
يقول شيخ السلم ابن تيمية ـ في هذه المسألة ـ) :وهذا ]اي العشق والشهوات[
إنما يبتلى به أهل العراض عن الخلص لله الذين فيهم نوع من الشرك ،وإل
فأهل الخلص ،كما قال الله ـ تعالى ـ في حق يوسف ـ عليه السلم ـ)) :ك َذ َل ِ َ
ك
ن(( ]يوسف [24 :فامرأة خل َ ِ
صي َ م ْ
عَباد َِنا ال ُ
ن ِ
م ْ
ه ِ شاَء إن ّ ُ ح َف ْ سوَء َوال ْ َ ه ال ّ ف ع َن ْ ُ صرِ َ ل ِن َ ْ
العزيز كانت مشركة فوقعت ـ مع تزوجها ـ فيما وقعت فيه من السوء ،ويوسف ـ
عليه السلم ـ مع عزوبته ،ومراودتها له ،واستعانتها عليه بالنسوة ،وعقوبتها له
ن) بالحبس على العفة ،عصمه الله بإخلصه له ،تحقيقا ً لقوله)) :ل ُغ ْوينه َ
مِعي َ ج َ
مأ ْ َُِّ ْ
س َ
عَباِدي لي ْ َ ن ِ ن(( ]ص ،[83 ،82 :قال ـ تعالى ـ)) :إ ّ صي َخل َ ِ م ْ م ال ُ من ْهُ ُك ِعَباد َ َ (82إل ّ ِ
ن(( ]الحجر [42 :والغي هو اتباع ن الَغاِوي َ م َ
ك ِ ن ات ّب َعَ َ ن إل ّ َ سل ْ َ ك ع َل َي ْهِ ْلَ َ
م ِ طا ٌ م ُ
الهوى.115
إن الفتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعا ً من العقوبات والمفاسد في الدنيا
والخرة.
وأشار ابن الجوزي إلى تنوع هذه العقوبات فقال) :اعلم أن العقوبة تختلف :فتارة
تتعجل ،وتارة تتأخر ،وتارة يظهر أثرها ،وتارة يخفى .وأطرف العقوبات ما ل يحس
بها المعاَقب ،وأشدها العقوبة بسلب اليمان والمعرفة ،ودون ذلك موت القلب
ومحو لذة المناجاة منه ،وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن ،وإهمال
الستغفار ،ونحو ذلك مما ضرره في الدين .وربما دّبت العقوبة في الباطن دبيب
الظلمة ،إلى أن يمتلئ أفق القلب ،فتعمى البصيرة ،وأهون العقوبة ما كان واقعا ً
بالبدن في الدنيا ،وربما كانت عقوبة النظر في البصر .فمن عرف لنفسه من
الطرق الحكمية ،ص .259 113
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 33
الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يُرد ّ ما
رد(.116 يَ ِ
وتحدث شيخ السلم ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة ،فكان مما قاله:
)فأما من استعبد قلبه صورة محرمة :امرأة أو صبي ،فهذا هو العذاب الذي ل
َيدان فيه ،وهؤلء من أعظم الناس عذابا ً وأقلهم ثوابًا؛ فإن العاشق لصورة إذا
بقي قلبه متعلقا ً بها ،مستعَبدا ً لها ،اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما ل يحصيه
إل رب العباد .ومن أعظم هذا البلء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق
طعم عبادة الله والخلص له ،لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ،ول ألذ ول
أطيب(.117
وقال أيضًا) :ول ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب؛ فإن الشهوة توجب
ن(( ]الحجر: مُهو َ سك َْرت ِهِ ْ
م ي َعْ َ م لَ ِ
في َ كر ،كما قال ـ تعالى ـ عن قوم لوط)) :إن ّهُ ْس ْال ّ
،[72وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى
الله عليه وسلم -قال) :العينان تزنيان وزناهما النظر( الحديث إلى آخره .فكثير
من الناس يكون مقصوده بعض هذه النواع المذكورة في هذا الحديث كالنظر
والستماع والمخاطبة ،ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة ،ومنهم من يقّبل
وينظر ،وكل ذلك حرام ،وقد نهانا الله ـ عز وجل ـ أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم
عليهم الحد ،فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟
بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به النسان من أنواع الزنا
المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره(.118
دث ابن القيم ـ في غير موضع ـ عن مفاسد الزنا وما يحويه من أنواع وتح ّ
الشرور ...فكان مما قاله ـ رحمه الله ـ) :والزنا يجمع خلل الشر كلها من قلة
الدين وذهاب الورع ،وفساد المروءة وقلة الغيرة ،فل تجد زانيا ً معه ورع ،ول وفاء
بعهد ،ول صدق في حديث ،ول محافظة على صديق ،ول غيرة تامة على أهله...
ومن موجباته :غضب الرب بإفساد حرمة عياله ،ومنها :سواد الوجه وظلمته وما
يعلوه من الكآبة والمقت ،ومنها ظلمة القلب وطمس نوره ...ومنها أنه يذهب
حرمة فاعله ،ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده ،ومنها أن يسلبه أحسن
السماء ويعطيه أضدادها .ومنها ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضد ّ
قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 34
قصده؛ فإن ما عند الله ل ُينال إل بطاعته ،ولم يجعل الله معصيته سببا ً إلى خير
قط(.119
وقال في موضع آخر) :واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب المعّلق بالحرام،
م أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه ،ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي كلما ه ّ
الخرة هكذا...
مرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي -صلى س ُ وفي بعض طرق حديث َ
الله عليه وسلم -قال) :رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما ،فإذا
بيت مبني على مثل بناء التنور أعله ضّيق وأسفله واسع ،يوقد تحته نار ،فيه
رجال ونساء عراة ،فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا ،فإذا أخمدت
رجعوا فيها ،فقلت :من هؤلء؟ قال :هم الزناة( .فتأمل مـطـــابقة هذا الحديث
لحال قلوبهم في الدنيا؛ فإنهم كلما هموا بالتوبة والقلع والخروج من تنور
كسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون(.120 ُ
الشهوة إلى فضاء التوبة أر ِ
وقال في موضع ثالث) :وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة ل
يلتذون بها وهم مع ذلك ل يستطيعون تركها؛ لنـهــا قد صارت عندهم بمنزلة
العيش الذي ل بد لهم منه ،ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع ل يـلـتـذ بهـمــــا
عـشـــر معشار من يفعله نادرا ً في الحيان(.121
ومـمــــــا ذكره الشيخ محمد الخضر حسين ـ رحمه الله ـ في مفاسد البغاء) :في
البغاء فساد كبير ،وشـــــر مستطير :يفتك بالفضيلة ،يدنس العراض ،يعكر صفو
المن ،يفصم رابطة الوفاق ،يـبـعـث المـــراض القاتلة في الجسام ،وأي حياة
لجماعة تضيع أخلقها وتتسخ أعراضها ،ويختل أمنها ،وتدب البغضاء في نفوسها،
وتنهك العلل أجسامها؟(.122
روضة المحبين ،ص .360 119
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 35
وفي ختام الحديث عن هذه الشهوة نورد علجها وسبيل النجاة منها،
وقد بسط أبو الـفـرج ابــن الجوزي في )ذم الهوى( وابن القيم في )روضة
المحبين( الحديث عن العلج ،وأطنبا في وصفه وتشخيصه ،وتمّيز ابن الـجــوزي
بإيراد علج لكل مرحلة من مراحل هذه الشهوة ،فجعل لـلـنظر المحرم علجًا،
وجعل للخلوة بالنساء علجا ً وهكذا .وأما ابن القيم فقد ساق خمسين وسيلة في
علج هذه الشهوة على سبيل الجمال والعموم.
طره يراع أبي الفرج ابن الجوزي في هذا المقام) :واعلم أن أمراض ومـمــا س ّ
العشق تختلف ،فينبغي لذلك أن يختلف علجها؛ فليس علج من عنده بداية المرض
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 36
ق
كعلج من انتهى به المرض نهايته ،وإنـمـــا ُيعـالـج مـن هذا المرض من لم يرت ِ
123
إلى غايته؛ فإنه إذا بلغ الغاية أحدث الجنون والذهول ،وتلك حالة ل تقبل العلج( .
وقــال أيـضـًا) :فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشا ً
متمكنًا؛ وعلمة ذلك :امـتــلء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حال ّ في الصدر ،وكأنه
يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة ،فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل
ل أن يقع الفـســــق إل في المطموع فيه؛ المطلوب ،وكفى بالطمع مرضًا ،وق ّ
فإن النسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبـه يتـعـلــق بها؛ لجل اليأس
ذبه إن لم من مثلها .فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه ،ويع ّ
يدركه..
وعلج هذا المرض :العزم القوي على البعد عن المحبوب ،والقطع الجازم على
غض البصر عنه ،وهجران الطمع فيه ،وتوطين النفس على اليأس منه(.124
كر ،فتعلم أن محبوبك وقـــــال في موضع ثالث) :ومما ُيداوى به الباطن أن تف ّ
و
ل؛ فإن الدمي محش ّ ليس كما في نفسك ،فأعـمــل فكرك في عيوبه تس ُ
بالنجاس والقذار ،وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال ،ول ُيصور له
الهوى عيبًا؛ لن الحقائق ل تنكشف إل مع العتدال ،وسـلـطــان الهوى حاكم جائر
يغطي المعايب ،فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسنًا.
دكم امرأة ٌ فليذكرولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ) :إذا أعجبت أح َ
مناتنها(.125
وأما مــا حّرره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات ،فنختار
منها بضعة حلول ومن ذلك قوله:
)التـفـكـر فـي أنه لم ُيخلق للهوى ،وإنما هُّيئ لمر عظيم ل يناله إل بمعصيته
للهوى كما قيل:
126
ل
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهم ِ قد هيؤوك لمر لو فطنت له
)أن يأنف لنفسه مــن ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إل وجد في
ن ،قد كبرهم؛ فهم أذل الناس بواط َ نفسه ذ ّ
ل ،ول يـغـتـر بصـولـة أتباع الهوى و ِ
127
جمعوا بين خصلتي الكبر والذل( .
)أن يعـلـم أن الـهـــــوى مـــا خالط شيئا ً إل أفسده ،فإن وقع في العلم أخرجه
إلى البدعة والضللة وصار صاحبه من جملة أهل الهواء ،وإن وقع في الزهد
أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة ،وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى
ده عن الحق ،وإن وقع في الولية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله الظلم وص ّ
والمسلمين حيث يوّلي بهواه ويعزل بهواه( .
128
فار فليس بدونه ،قال رجل )إن جهاد الهوى إن لم يكن أعـظــم مــن جـهــاد الك ّ
للحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ :يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال :جهادك
فار
هواك .وسمعت شيخنا ابن تيمية يقول) :جهاد النفس أصـــــل جهاد الك ّ
والمنافقين؛ ،فإنه ل يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أول ً حتى يخرج
إليهم(.129
)إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق ،ويفتح عليه أبواب الخذلن ،فتراه
يلهج بأن الله لو وّفقه لكان كذا وكذا ،وقد سد ّ على نفسه طـــــرق الـتـوفـيــق
باتباعه هواه .قال الفضيل بن عياض :من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات
انقطعت عـنـــه مـــــــوارد التوفيق(.130
)إن الـتـوحـيــد واتباع الهوى متضادان ،فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه
بحسب هواه ،وإنما بعث الله رسله بكسر الصنام وعبادته وحده ل شريك له،
سدة وترك الصنام التي في القلب، وليس مراد الله ـ تعالى ـ كسر الصنام المج ّ
َ
ل الِتي ماِثي ُ
ما هَذ ِهِ الت ّ َ
ل ..وتأمل قول الخليلَ )) : بل المراد كسرها من القلب أو ً
ن(( ]النبياء ،[52 :كيف تجده مطابقا ً للتماثيل التي يهواها القلب م ل ََها َ َ
فو َ عاك ِ ُ أنت ُ ْ
ويعكف عليها ويعبدها من دون الله ـ تعالى ـ(.131
)إن لكل عبد بداية ونهاية ،فمن كانت بدايته اتباع الهوى ،كانت نهايته الذل
والصغار والحرمان والبلء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه ،بل يصير له ذلك في
ذب به في قلبه كما قال القائل: نهايته عذابا ً ُيع ّ
عذابا ًعذابا ً فصارت في المشيب َ مآرب كانت في الشباب لهلها ِ
فلو تأملت حال كــــــل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره
على عقله ،ومن كانت بدايـتـــــه مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته
العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس .قيل للمهلب ابن أبي صفرة:
م نلت ما نلت؟ قال :بطاعة الحزم وعصيان الهوى .فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، بِ َ
وأما الخرة فقد جعل الله ـ سبحانه ـ الجنة نهاية من خالف هواه ،والنار نهاية من
اتبع هواه(.132
* * *
شهوة المال
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 39
اسـتـولـى عـلـى أفئدة كثير من الناس الولع بالمال ،فُأشربوا حبه والتعلق به،
ل حديثهم جيراهم ومقصودهم وج ّ فاستعبدهم الدرهم والديـنــــار ،وصار ه ِ ّ
واهتمامهم ،فإن أحبوا فل يحبون إل لجل المال ،وإن أبغضوا فل يبغضون إل لجل
ُ
وا إذا هم يسخطون. المال :إن أعطوا رضوا ،وإن لم ُيعط َ ْ
ما
م الله ـ تعالى ـ الدنيا في كتابه في غير موضع ،كقوله ـ تعالى ـ)) :وَ َ ولقد ذ ّ
َ َ
ماموا أن ّ َ مَتاع ُ الغُُروِر(( ]ال عمران [185 :وقوله ـ سبحانه ـ)) :اع ْل ُ حَياة ُ الد ّن َْيا إل ّ َ ال َ
ة(( ]الحديد.[20 : ب وَل َهْوٌ وَِزين َ ٌ حَياة ُ الد ّن َْيا ل َعِ ٌال َ
وأما الحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد فيها فكثيرة جدًا؛ منها حديث أبي سعيد
الخدري ـ رضي الله عنه ـ قـــــــال :جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ن مما أخاف عليكم من بعدي ما ُيفتح عليكم على المنبر ،وجلسنا حوله ،فقال) :إ ّ
من زهرة الدنيا وزينتها( متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عــنـــه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال:
)تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخمـيـصــــة ،إن أعطي رضي ،وإن لم
ض( أخرجه البخاري. ط لم ير َ ُيع َ
وعن كعب بن عيا ض -رضي الله عنه -قا ل :سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم -يـقــــــول) :إن لكل أمة فتنة ،وفتنة أمتي المال( أخرجه الترمذي ،وقال:
حديث حسن صحيح.
وعن كـعــب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال :قال رسول الله) :ما ذئبان جائعان
ُأرسل في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه( أخرجه
الترمذي ،وقال :حديث حسن صحيح.
وقد ورد عــــــن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ :أنه قال :إياكم وما شغل من
الدنيا؛ فإن الدنيا كثيرة الشغال ،ل يفتح رجل على نفسه باب شغل إل أوشك ذلك
الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب(.133
وكان يقول أيـضـــــًا) :أهينوا الدنيا فو الله لهنأ ما تكون إذا أهنتها( .134وكان
م إل أذله الله(.135 الحسن يحلف بالله ما أعز أحد ٌ الدره َ
ولبن القيم ـ رحـمـــــه الله ـ كـلم نفـيس في الترغـيب بالزهـد في الدنيا،
والقبال على الخـرة ،نـورد منـه ما يلي:
)ل تتم الرغبة في الخرة إل بالزهد في الدنيا ،ول يستقيم الزهد في الدنيا إل بعد
نظرين صحيحين:
133أخرجه ابن المبارك في الزهد ،ص .189
134سير أعلم النبلء.4/579 ،
135أخرجه أبو نعيم في الحلية ،2/152 ،وانظر :سير أعلم النبلء.4/576 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 40
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحللها ونقصها وخستها ،وألم المزاحمة
عليها والحرص عليها ،وما في ذلك من الغصص والنغص والنكاد ،وآخر ذلك
م
الزوال والنقطاع مع ما يعقب من الحـسـرة والسف؛ فطالبها ل ينفك من ه ّ
م في حال الظفر بها ،وغم وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين. قبل حصولها ،وه ّ
النظر الثاني :النظر في الخرة وإقبالها ومجيئها ول بد ،ودوامها وبقائها وشرف ما
فيها من الخيرات والمسرات ،والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله
قى(( ]العلى [17 :فهي خيرات كاملة دائمة ،وهذه خي ٌْر وَأ َب ْ َخَرة ُ َ ـ سبحانه ـَ)) :وال ِ
خيالت ناقصة منقطعة مضمحلة(.
عـــد الله ـ سبحانه ـ أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة ـ إلى أن قال ـ) :وقد تو ّ
ن
جو َ ن ل ي َْر ُ ذي َ َ
ن ال ِ ج لقاءه فقال)) :إ ّ الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم ير ُ
قاَءنا ورضوا بال ْحياة الدنيا واط ْ َ
غافُِلو َ
ن) ن آَيات َِنا َ عــــ ْ م َ ن هـــــ ْ مأّنوا ب َِها َوال ّ ِ
ذي َ َ ِ َ َ ِ َّْ َ لِ َ َ َ َ ُ
ن(( ]يونس [8 ،7 :وعّير ـ سبحانه ـ من سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ ما َ م الّناُر ب ِ َ ما ًَواهُ ُ
ك َ(7أ ُوْل َئ ِ َ
َ
فُروا م ان ِ ل ل َك ُ ُذا ِقي َ مإ َ ما ل َك ُ ْ مُنوا َ نآ َ ذي َرضي بالدنيا من المؤمنين فقالَ)) :يا أي َّها ال َ ِ
َ َ
مَتاعُما َ خَرةِ فَ َ ن ال ِ م َ حَياةِ الد ّن َْيا ِ ضيُتم ِبال ْ َ ض أَر ِ م إلى الْر ِ
ل الل ّهِ اّثاقَل ْت ُ ْ َ سـبــيــ ِ ِفي َ
ل(( ]التوبة [38 :وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا خَرةِ إل ّ قَِلي ٌ حَياةِ الد ّن َْيا ِفي ال ِ ال َ
ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الخرة.
َ َ
ن ) (205ث ُ ّ
م سِني َ م ِ مت ّعَْناهُ ْ ت إن ّ ويكفي في الزهد في الدنيا قوله ـ تعالى ـ)) :أفََرأي ْ َ
ما َ َ ما َ
ن(( ]الشعراء-205 : مت ُّعو َ كاُنوا ي ُ َ ما أغ َْنى ع َن ُْهم ّ ن )َ (206 دو َ كاُنوا ُيوع َ ُ هم ّ جاَء َُ
136
. ([207
وجاء في كتاب) :عدة الصابرين( لبن القيم ما يلي) :جميع المم المكذبة لنبيائهم
إنما حملهم على كفرهم وهلكهم حب الدنيا ،فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك
والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛
فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا ...فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر
النار بأهلها ،والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها ،والسكر بحب
الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير ،وصاحب هذا السكر ل يفيق منه إل
في ظلمة اللحد ...والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
حارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء(. حارة ،اتقوا الس ّ قال مالك بن دينار) :اتقوا الس ّ
وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره ،ومن ألهاه ماله عن ذكر الله ـ
تعالى ـ فهو من الخاسرين ،وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه
حيث أراد(.137
وقد بالغ العلماء في التحذير من الستمتاع بالدنيا والنكباب عليها ،حتى جعلوا
مجرد النظـر إلى الدنيـا ـ إن كان على سبيل استحسانها والركون إليها ـ مذمومًا،
ضحه شيخ السلم ابن تيمية بقوله: كما و ّ
)النظر إلى الشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة
مت ّعَْنا ب ِهِ أ َْزَواجا ً
ما َ ك إَلى َ ن ع َي ْن َي ْ َمد ّ ّوالمال فهو مذموم؛ لقول الله ـ تعالى ـَ)) :ول ت َ ُ
قى(( ]طه.[131 : َ
خي ٌْر وَأب ْ َك َ م ِفيهِ وَرِْزقُ َرب ّ َفت ِن َهُ ْ
حَياةِ الد ّن َْيا ل ِن َ ْ
م َزهَْرة َ ال َمن ْهُ ْ
ّ
وأما إذا كان على وجه ل ينقص الدين ،وإنما فيه راحة النفس فقط ،كالنظر إلى
الزهار ،فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق(.138
إن الحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله:
)أحدهما :شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة ،والمبالغة في طلبه والجد
في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...
ولو لم يكن في الحرص على المال إل تضييع العمر الشريف فيما ل قيمة له ـ
كن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى ،والنعيم المقيم ،فضيعه بالحرص وقد ُيم ّ
در وُقسـم؛ ثم ل ينتفـع به بل في طلب رزق مضمون مقسوم ل يأتي منه إل ما قُ ّ
يتركـه لغيره ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعـه لغيـره ،فيجمـع لمن ل
يحمـده ،ويقـدم على من ل يعـذره لكفـاه بـذلك ذما ً للحرص؛ فالحريص يضيع
زمانه الشريف ،ويخاطر بنفسه في السفار وركوب الخطار لجمع مال ينتفع به
غيره.
النوع الثاني :من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الول،
حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ،ويمنع الحقوق الواجبة ،فهذا من الشح
ن((حو َ فل ِ ُم ْ
م ال ُ سهِ فَأ ُوْل َئ ِ َ
ك هُ ُ ف ِ ح نَ ْش ّ من ُيوقَ ُ المذموم ،قال الله ـ تعالى ـ)) :وَ َ
]التغابن.[16 :
وفي صحيح مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال) :اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم :حملهم على أن سفكوا
دماءهم ،واستحلوا محارمهم(.139
وإنما يصير حب المال مذموما ً إذا كان سببا ً في ارتكاب المعاصي أو ترك
الواجبات ،يقول شيخ السلم في هذا الصدد) :حب المال والشرف يفسد الدين،
والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم
والكذب والفواحش ،ول ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك،
أما مجرد حب القلب إذا كان النسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه،
138مختصر الفتاوى المصرية ،ص ،29وانظر :شجرة المعارف والحوال ،للعز بن عبد السلم ،ص .7
139شرح حديث )ما ذئبان جائعان (...ص ،11-7باختصار.
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 42
ويخاف مقام ربه ،وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله ـ تعالى ـ ل يعاقب على مثل
هذا إذا لم يكن معه عمل.
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام ل يعاقب عليه ،لكن
إخراج الفضل والقتصار على الكفاية أفضل وأسلم ،وأفرغ للقلب وأجمع للهم،
وأنفع للدنيا والخرة ،وقد قال صلى الله عليه وسلم) :من أصبح والدنيا أكبر همه
شتت الله عليه شمله ،وجعل فقره بين عينيه ،ولم يأته من الدنيا إل ما كتب له،
ومن أصبح والخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه ،وجمع عليه ضيعته وأتته
الدنيا وهي راغمة(.140
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والنهماك عليه ،وبين تركه والعراض عنه؛
كما في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال :قام رسول الله -صلى
رج الله الله عليه وسلم -فخطب الناس فقال) :ل والله ما أخشى عليكم إل ما ُيخ ِ
لكم من زهرة الدنيا( ،فقال رجل :يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فصمت
ت؟ قال :يا رسول الله! أَو رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ثم قال :كيف قل َ
يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله) :إن الخير ل يأتي إل بالخير ،وإن مما ينبت
الربيع ما يقتل حبطًا ،أو يلم إل آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلت خاصرتاها
استقبلت الشمس فثلطت وبالت ،ثم اجتّرت فعادت فأكلت ،فمن أخذ مال ً بحقه
بورك له فيه ،ومن أخذ مال ً بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ول يشبع( متفق
عليه.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبّين المسلك الوسط تجاه المال فقال) :قوله:
)إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا ً أو يلم(( هذا من أحسن التمثيل المتضمن
للتحذير من الدنيا والنهماك عليها والمسرة فيها ،وذلك أن الماشية يروقها نبت
الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطًا) ،والحبط انتفاخ بطن الدابة من
ره في المال يقتله شرهه وحرصه ،فإن لم المتلء أو من المرض( ،فكذلك الش ِ
يقتله قارب أن يقتله ،وهو قوله) :أو يلم( ،وكثير من أرباب الموال إنما قتلهم
أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم ،فلم يصلوا إليها إل بقتلهم
أو ما يقاربه من إذللهم وقهرهم.
وقوله) :إل آكلة الخضر( هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته ،مّثله بالشاة الكلة
من الخضر بقدر حاجتها ،أكلت حتى امتلت خاصرتاها...
وفي قوله) :استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت( ثلث فوائد :أحدها أنها لما
أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما
أكلته .الثانية :أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى وأقبلت على ما
140مختصر الفتاوى المصرية ،ص ،493وانظر ص ،95وانظر مجموع الفتاوى ،190 ،10/189 ،ومختصر منهاج القاصدين ،لحمد بن
قدامة ،ص .195
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
مسائل وقواعد ومباحث العبودية 43
ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه.
الثالثة :أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها فاستراحت
بإخراجه ،ولو بقي فيها لقتلها ،فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت
هذه الشاة...
وفي هذا الحديث إشارة إلى العتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل
من الخبر أيضا ً إرشاد بكثرته ،وبين العراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعًا .وتض ّ
المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الخراج منه
وإنفاقه ول يحبسه فيضره حبسه(.141
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصا ً أن ي ُعْن َ ْ
وا
وا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن بتحقيق الكفاف والستغناء عن الناس كما ي ُعْن َ ْ
استغناء العلماء عن الناس عموما ً والحكام خصوصا ً من أعظم السباب في حفظ
مكانة العلماء وعظم شأنهم.
ّ
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ) :لن أخلف عشرة آلف درهم أحاسب عليها
ي من أن أحتاج إلى الناس ...ولول هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلء أحب إل ّ
142
الملوك( .
يقول ابن الجوزي حاثا على الستغناء عن الناس) :ليس في الدنيا أنفع للعلماءً
من جمع المال للستغناء عن الناس ،فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال ،وإن
ل الصبر جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب ،فاحتاجوا إلى ما ل بد منه ،وق ّ
فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأّولوا فيها...
ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يْغشون الولة لجل نيل ما في أيديهم؛
فمنهم من يداهن ويرائي ،ومنهم من يمدح بما ل يجوز ،ومنهم من يسكت عن
منكرات إلى غير ذلك من المداهنات ،وسببها الفقر ،فعلمنا أن كمال العز وُبعد
مة ،ولم نَر من صح له هذا إل في أحد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظ ّل َ َ
رجلين:
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره ،وسفيان
الثوري كانت له بضائع ،وابن المبارك .وأما من كان شديد الصبر قنوعا ً بما رزق ـ
وإن لم يكفه ـ كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد النسان كصبر هذين،
ول كمال أولئك ،فالظاهر تقلبه في المحن والفات ،وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك
دينك ،فما رأينا في الغلب منافقا ً في التدين والتزهد والتخشع ،ول آفة طرأت
ب الدنيا ،وغالب ذلك الفقر ،فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب على عالم إل بح ّ
143
ه ،خارج عن حّيز العلماء( . بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل ال ّ
شَر ِ
* والمقصود أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال ،مما يحتاجه في
مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك ،وأن يطلب ذلك من الله ـ تعالى ـ
وحده ويرغب إليه فيه ،وأن ل يكون سائل ً للمال بلسانه ـ إل لضرورة ـ أو
مستشرفا ً إليه بقلبه.
وأما ما ل يحتاج إليه العبد فل ينبغي له الشتغال به؛ لن ذلك يؤول إلى تعلق
القلب بالمال واستعباده له ،كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم ،وقد
يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
* * *
شهوة الرياسة
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيرا ً من الناس
وأحكمت على أفئدتهم ،فصارت الوليات والمناصب وما يتبعها من الشهرة
والظهور مقصودهم ومرادهم.
وقد سبق إيراد حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه
وسلم -أنه قال) :ما ذئبان جائعان ُأرسل في غنم بأفسد لهما من حرص المرء
على المال والشرف لدينه(.144
يقول الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث) :فأخبر النبي -صلى
الله عليه وسلم -أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من
إفساد الذئبين لهذه الغنم ،بل إما أن يكون مساويا ً وإما أكثر ،يشير أنه ل يسلم
من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إل القليل ،كما أنه ل
يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إل القليل .فهذا المثل العظيم
يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا(.
ـ إلى أن قال ـ) :وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلكا ً من الحرص على
المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها ،والرياسة على الناس والعلو في
الرض أضر على العبد من طلب المال ،وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن
المال يبذل في طلب الرياسة والشرف(.145
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ أقسام الحرص على الشرف فقال) :والحرص على الشرف
قسمان:
أحدها :طلب الشرف بالولية والسلطان والمال ،وهذا خطر جدًا ،وهو في الغالب
خَرةُ
داُر ال ِ
ك ال ّيمنع خير الخرة وشرفها وكرامتها وعزها .قال الله ـ تعالى ـ)) :ت ِل ْ َ
َ
ن(( ]القصص: قي َ ة ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ سادا ً َوال َْعاقِب َ ُ
ض َول فَ َ دو َ ُ ً
ن ع ُلوا ِفي الْر ِ ري ُن ل يُ ِ جعَل َُها ل ِل ّ ِ
ذي َ نَ ْ
كل إلى ل من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الوليات فيوفق بل يو َ ،[83وق ّ
نفسه(.
إلى أن قال ـ) :ومن دقيق آفات حب الشرف :طلب الوليات والحرص عليها ،وهو
باب غامض ل يعرفه إل العلماء بالله العارفون به المحبون له....
واعلم أن حب الشرف بالحرص على نفوذ المر والنهي ،وتدبير أمر الناس إذا
صد َ بذلك مجرد علو المنزلة على الخلق ،والتعاظم عليهم ،وإظهار صاحب هذا قُ ِ
الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه ،وذلهم له في طلب حوائجهم منه؛ فهذا
نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته.
القسم الثاني :طلب الشرف والعلو على الناس بالمور الدينية كالعلم والعمل
والزهد؛ فهذا أفحش من الول ،وأقبح وأشد فسادا ً وخطرًا؛ فإن العلم والعمل
والزهد إنما ُيطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم ،والقربى منه
والزلفى لديه.146(...
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور ،كما
بّينه شيخ السلم ابن تيمية بقوله) :إن النسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛
رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب المكان ،والنفوس مشحونة بحب
العلو والرئاسة بحسب إمكانها ،فتجده يوالي من يوافقه على هواه ،ويعادي من
يخالفه في هواه ،وإنما معبوده ما يهواه وما يريده(...
إلى أن قال ـ) :فإن كان مطاعا ً مسلما ً طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان فيها
ما هو ذنب ومعصية لله ،ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله
وخالف هواه ،وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل.
وإن كان عالما ً أو شيخا ً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره ،وربما أبغض
نظيره حسدا ً وبغيًا.147(..
إن حب الرئاسة وطلبها ل ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة ،وقد أشار ابن
رجب إلى بعضها بقوله) :واعلم أن الحرص على الشرف يستلزم ضررا ً عظيمًا،
قبل وقوعه في السعي في أسبابه ،وبعد وقوعه بالحرص العظيم الذي يقع فيه
صاحب الولية من الظلم والتكبر ،وغير ذلك من المفاسد(.148
وقال في موضع آخر) :إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء
حتى ل يبقى منه إل ما شاء الله ...والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها،
ومن هنا نشأ الكبر والحسد(.149
وذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعض مفاسد هذه الشهوة ،فقال:
)إن طلب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في
الرض ،وتعّبد القلوب لهم ،وميلها إليهم ،ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع
كونهم عالين عليهم قاهرين لهم ،فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما ل
يعلمه إل الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس
قره الله ،واحتقار من أكرمه الله ،ول تتم الرياسة دون حق الله ،وتعظيم من ح ّ
ى عن الدنيوية إل بذلك ،ول ُتنال إل به وبأضعافه من المفاسد ،والرؤساء في عم ً
شروا في ح ِ
كشف الغطاء تبّين لهم فساد ما كانوا عليه ،ول سيما إذا ُ هذا؛ فإذا ُ
صوَرِ الذّر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيرا ً كما صّغروا أمر الله ُ
150
وحقروا عباده( .
وإذا تقرر ذم حب الرياسة وبيان مفاسدها ،فإن حب المارة للدعوة إلى الله ـ
تعالى ـ يفارق حب الرياسة؛ فإن مقصود هذه المارة تعظيم الله ـ تعالى ـ وأمره،
وأما مقصود حب الرياسة فهو تعظيم النفوس والسعي في حظوظها ،وأئمة
العدل وقضاتهم ل يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة ،بل إلى تعظيم الله وحده
وإفراده بالعبودية ،ومنهم من كان ل يريد الولية إل للستعانة بها على الدعوة إلى
الله وحده .فمن سأل ربه أن يجعله للمتقين إماما ً يقتدي به المتقون ،كما اقتدى
هو بالمتقين لم يضره ذلك ،بل ُيحمد عليه؛ لنه داٍع إلى الله يحب أن يعبد ويطاع،
فهو يحب ما يكون عونا ً على ذلك موصل ً إليه.151
إن على أهل العلم وطلبه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة ،فإنه داء
عضال ينبغي المسارعة في علجه بالتوبة إلى الله ـ تعالى ـ وتزكية النفس
ومحاسبتها.
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ) :الرياسة أحب إلى القراء من الذهب
الحمر(.152
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات والشهرة
فقال) :واليوم صارت الرياسات من كل جانب ،وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن
من القلب :الغفلة ،ورؤية الخلق ،ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة على أهل
الدنيا.
ً
ولقد رأيـت مـن الناس عجبا حتى من يتزيا بالعلم ،إن رآني أمشي وحدي أنكر
ظم ذلك ،وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من ي ،وإن رآني أزور فـقــيـرا ً ع ّ عل ّ
عينه ،فقلت :فوا عجبا ً هذه كانت طريق الـرسـول -صلى الله عليه وسلم-
والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ،فصارت أحوال الخلق نواميس لقـامـــة الجاه ،ل
ه! سقطتم من عين الحق ،فأسقطكم من عين الخلق... م والل ِجَر َ
َ
عمدتكم فـتـــوا إخواني إلى إصلح النيات ،وترك التزين للخلق ،ولتكن ُ فـالت ِ
153
الستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا( .
وفي ختام هـــذه المقالة نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف
والغنى ،وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلت الهوى ،وبالله التوفيق.