Escolar Documentos
Profissional Documentos
Cultura Documentos
االستراتيجية strategyتعريب شائع لمصطلح يوناني قديم strategiaمشتق من لقب الستراتيغوس strategosالذي كان
يحمله الرؤساء التنفيذيون 7اإلغريق في مجلس الشيوخ ،وكان هؤالء ينتخبون من بين القاد ة الفرسان المخولين سلطات عسكرية
وسياسية واسعة (حلف اآلخيين وحلف األتوليين واالتحاد األثيني من القرن السادس ق.م وحتى منتصف القرن األول
الميالدي) .ولقب استراتيفوس مركب من كلمتي استراتوس Stratosأي االقواتب وآغو agoومعناها أقود.
واالستراتيجية مصطلح واسع المعنى متعدد 7الوجوه ،وقد ارتبطت تاريخيا ً بفن الحرب وقيادة القوات ،ثم اتسعت مضامينها
بمرور الزمن وبتراكم الخبرات والمعارف حتى غدت نمطا ً من التفكير العالي المستوى الموجه لتحقيق غايات السياسة ،وتعبئة
قوى األمة المادية والمعنوية 7،وضمان مصالحها في السلم والحرب .ولهذا السبب ليس لالستراتيجية معنى متفق عليه ،ألن
معناها ومبناها مرتبطان بالشروط الزمانية والمكانية التي صيغت فيها ،وباألحداث التي انبثقت عنها ،وباألشخاص الذين تبنوها
وطبقوها ،وبالمدارس الفكرية التي ولدتها ،وبالمجاالت التي اختصت بها .وهناك من يصنف االستراتيجية في عامة وخاصة،
فاالستراتيجية العامة هي التي تهتم بدراسة متطلبات السياسة والحرب وتسعى إلى إيجاد السبل لتحقيقها .واالستراتيجية الخاصة
تهتم بدراسة متطلبات نشاط محدد من األنشطة التي تعنى بها األمة ،كاستراتيجية االقتصاد واستراتيجية الزراعة واستراتيجية
التربية وغيرها .وثمة آخرون يصنفون االستراتيجية في مستويات أو طبقات فيقال استراتيجية عليا أو كبرى واستراتيجية دنيا
أو صغرى ،غير أن التعريف المعجمي لالستراتيجية يرتبها على النحو التالي :
في المجال السياسي االقتصادي للدولة أو لمجموعة الدول :هي علم وفن يهتمان بتعبئة قوى أمة أو مجموعة أمم سياسيا ً
وعسكريا ً واقتصاديا ً ومعنويا ً لتوفير الدعم األقصى للسياسة التي تتبناها الدولة أو مجموعة الدول في السلم والحرب.
في مجال العلم العسكري :هي علم وفن يختصان بإدارة الحرب واالستعداد لها وقيادة الصراع المسلح مع العدو وتوفير
في مجال فن الحرب :هي جزء مكون من فن الحرب يختص بدراسة المسائل النظرية والتطبيقية المرتبطة بإعداد القوات
المسلحة للحرب والتخطيط لها وخوضها ،وهذا هو المفهوم الشائع المعروف باالستراتيجية العسكرية.
في مجال التطبيق العسكري :هي نوع من التطبيقات العسكرية العالية المستوى كاستراتيجية الهجوم المعاكس واستراتيجية
في االستعماالت العصرية :تعددت االستعماالت العصرية لكلمة االستراتيجية حتى شملت مختلف المجاالت ،فقد يوصف موقع
دولة ما أو جزء من آراضيها بأنه استراتيجي ،وقد يوصف قرار سياسي أو اقتصادي ذو أهمية بالصفة نفسها ،كذلك توصف بها
بعض األسلحة المتطورة وبعض المواد أو المنتوجات أو التقنيات ذات األهمية الخاصة ،وربما شملت صفة االستراتيجية أنماطا ً
من التفكير أو الدراسات أو المشروعات ،وكذلك كل ما هو ضروري لخوض الحرب وإدارتها ويؤتى به من خارج البالد.
ومع تعدد التعريفات السابقة واختالف وجهات النظر يمكن القول إن خيطا ً ناظما ً يجمع بينها قوامه أن االستراتيجية علم وفن
يُعنيان بدراسة الطاقات والقوى المتاحة ،وتوفير الخطط والوسائل لتحقيق أهداف السياسة تحقيقا ً مباشراً أو غير مباشر .فهي
علم ألنها تبنى على نظريات علمية متعددة األوجه تشمل العلوم االجتماعية والعلوم البحتة والعلوم العسكرية وغيرها .وهي فن
ألن ممارستها وتطبيقاتها تختلف بين شخص وآخر سواء أكان سياسيا ً أم عسكرياً.
ترتبط االستراتيجية بالسياسة ارتباطا ً وثيقا ً وتعتمد عليها وتستجيب لمتطلباتها ،وتنفذ المهام التي تسندها إليها .وتتبوأ
االستراتيجية مكان الصدارة من فن الحرب ،وهي تحيط بجميع المسائل النظرية والتطبيقية التي لها عالقة بإعداد الدولة وقواتها
المسلحة للحرب وبوضع خطط الحرب وخطط العمليات االستراتيجية وإدارة دفتها حتى تتحقق الغايات المرسومة لها وفق
وتؤلف االستراتيجية العسكرية ،من الناحية النظرية ،منظومة المعارف العسكرية التي تتناول قوانين الحرب ومبادئها وطابعها
وأساليب خوضها ،وهي التي تحدد األسس النظرية للمذهب العسكري ،ولبناء القوات المسلحة واستخدامها ،وأسس تخطيط
ومن الناحية التطبيقية تشمل االستراتيجية العسكرية النشاط العملي الذي تمارسه القيادة االستراتيجية لبناء القوات المسلحة
ووضع الحلول المناسبة للمهام التي تحددها لها القيادة السياسية في ضوء اإلمكانات الحقيقية للدولة وكمونها الحربي وقواتها
المسلحة ،كما تشمل أعمال القيادة الرامية إلى تحديد المهام األساسية للقوات المسلحة في األحوال الراهنة ،وإعداد مسارح
العمليات الحربية ،وتوزيع القوى عليها ،وتحديد مهام الجبهات واألساطيل والجيوش بحسب أهمية االتجاهات االستراتيجية التي
لتنفيذ عمليات مفردة .واالستراتيجية عامة واحدة للقوات المسلحة ،وفروضها واجبة على أنواع القوات المسلحة كافة.
أما العالقة بين االستراتيجية وفن العمليات والتكتيك( 7األجزاء المكونة لفن الحرب) فهي عالقة جدلية تتغير بتغير وسائل
الصراع المسلح ودرجة تجهيز القوات المسلحة .وتحتل االستراتيجية المكانة األولى بينها ،فهي التي تحدد مهام فن العمليات
وفن التكتيك ،وتضع األطر النظرية لهما ،وتعتمد 7عليهما وتستفيد من نجاحاتهما في تحقيق األهداف المرجوة ،إذ كان نجاح
االستراتيجية في الحروب السابقة مرهونا ً تماما ً بالنجاحات التكتيكية 7،ثم توسط فن العمليات بينهما في الحروب الحديثة.
ومع ظهور السالح الصاروخي النووي اكتسبت العالقة بين هذه المستويات الثالثة مضمونا ً جديداً ،فوضعت في تصرف القيادة
االستراتيجية وسائل تدمير تمكنها من تدمير العدو وتنفيذ بعض المهام االستراتيجية والتكتيكية 7المهمة من دون وسيط .وتملكت
القيادتان العملياتية والتكتيكية ،في المقابل ،وسائل تدمير بعيدة المدى تمكنها من تنفيذ مهام كبيرة العمق والمساحة ذات أهمية
استراتيجية مباشرة.
تتبدل مضامين االستراتيجية بتبدل 7أهداف الدولة السياسية والموقف الدولي ونسبة القوى ومستوى االقتصاد وكفاية وسائل
الصراع المسلح وكميتها ،وتختار كل دولة (أو حلف دول) استراتيجيتها الخاصة بها في كل مرحلة تاريخية بما يتالءم مع
ـ في العصور القديمة 7:كانت االستراتيجية في العصور القديمة فنا ً يحتكره القادة العسكريون وتقر ن تطبيقاته بأسمائهم .وتعد
ِح َكم القادة الصينيين 7القدماء من أولى محاوالت صوغ الفكر االستراتيجي العسكري .وقد أسهمت تطبيقات جيوش األمم القديمة
في تراكم الخبرات وإرساء أسس فن الحرب واالستراتيجية على مر العصور ،وأدى تطور األسلحة والعتاد وتبدل التكوينات
االجتماعية والبنى االقتصادية إلى تبدل المالمح المميزة لمضمون االستراتيجية .فقد كانت استراتيجيات بالد الشرق القديمة
والهند والصين والفرس واإلغريق والرومان تعتمد بادئ األمر حمالت قصيرة األمد قليلة العمق نسبياً ،ثم راحت بعد ذلك تتخذ
أبعاداً كبيرة جداً (حمالت االسكندر وداريوس ويوليوس قيصر والجيش االمبراطوري الروماني) ورافق تنفيذ تلك الحمالت
تكوّن تدريجي لبعض النظريات االستراتيجية ،وكان معظم القادة ينظرون إلى مسائل إعداد الحرب وتكوين الجيوش على أنها
ق.م) ويوليوس قيصر (القرن األول قبل الميالد) وفرونتينوس (Frontinus القرن األول الميالدي) وأونوساندروس
( Onosandrosالقرن األول الميالدي) وبولوني Polony وفيجيتيوس (أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الميالديين)،
ـ في عصر الفتوحات اإلسالمية :تميزت االستراتيجية العسكرية مع انتشار اإلسالم بمجموعة خصائص طبعتها بطابعها على
مدى القرون .وفي مقدمتها تبني العقيدة الدينية 7عامالً موجها ً لجميع الفاعليات االجتماعية والعسكرية في الدولة الجديدة ،وتبني
مبدأ الجهاد أساسا ً للتجنيد وفرضه على كل قادر على حمل السالح ،وتبني مبدأ وحدة القيادة السياسية العسكرية في شخص
الخليفة أمير المؤمنين 7وفي شخص والة األقاليم وقادة جيوش الفتح ،وتبني مبدأ المركزية في تخطيط العمليات وتوجيه الجيوش
انطالقا ً من عاصمة الخالفة إلى جانب إطالق يد القادة في حرية التصرف في حدود معينة 7،وتبني إقامة القواعد المتقدمة الممثلة
في الثغور والرُّ بُط والعواصم ،ومرابطة قوات دائمة فيها (الصوائف والشواتي) لحماية الحدود ،وتسديد الضربات المسبقة إلى
تجمعات العدو .وارتبطت هذه االستراتيجية ارتباطا ً وثيقا ً بالمذهب العسكري العربي اإلسالمي القائم أصالً على مفهوم المفاجأة
والمناورة وسرعة الحركة واستنزاف العدو وجره إلى الموقعة الفاصلة المهيأ لها سلفا ً وتبني العمليات الهجومية العميقة
وكانت جيوش الفتح تتألف في معظمها من الخيالة الخفيفة السريعة الحركة ،وتجلَت أهم التطبيقات االستراتيجية في تلك الحقبة
في المعارك الفاصلة مثل القادسية ونهاوند واليرموك وفتح دمشق ،وشمال إفريقية ،واإلنزال في جبل طارق وفتح األندلس.
وفي العصر العباسي طرأت تبدالت جوهرية على الفكر االستراتيجي العربي واإلسالمي نجمت عن األوضاع السياسية
واالجتماعية التي سادت العالم اإلسالمي (سيطرة العنصر التركي ،ظهور الخالفة الفاطمية في مصر ،تشكل الدويالت
اإلقطاعية ،والحمالت الصليبية ،الغزو المغولي) وأدى ذلك كله إلى تطوير أساليب التعبئة ومبادئ التجنيد ،وإلى ظهور الجيوش
المحترفة المؤلفة من جنود نظاميين وقوات مرتزقة ومماليك ،وإلى تطوير أساليب الهجوم والدفاع والتقرب والسيطرة ،وتبديل
بنية الجيوش وتسلحيها بما يتفق وروح العصر ،إلى جانب المحافظة على بعض المبادئ األساسية كوحدة القيادة والمركزية
ممثلة في شخص أمير الجيوش أو السلطان من دون الخليفة .وفي هذا العصر ازدادت أهمية القالع والمدن المحصنة وتطورت
بالتالي أساليب الحصار وآالته (المنجنيق وال َعراَّدة وقوس الزيار وبرج الحصار ورأس الكبش) التي تسببت في إبطاء حركة
الجيوش وأدت في خاتمة المطاف إلى ظهور المكاحل والمهاريس والمدافع والبنادق .وقد كان للمدافع دورها في سيطرة
العثمانيين 7على بالد الشام ومصر والقضاء على دولة المماليك الذين أهملوا شأنها ،مع أنهم أول من صنعها واستخدمها ،فلم
يولوها االهتمام الذي أواله إياها العثمانيون ،واستفاد هؤالء من ميزات المدافع في عمليات الصدام المباشر وحققوا بوساطتها
انتصارهم في مرج دابق ،كما سبق وحققوه في فتح القسطنطينية وحصار فيينة.
ـ في عصر اإلقطاع والنهضة األوربيين :غلبت على االستراتيجية في أوربة العصور الوسطى فكرة الحرب المحدودة وحرب
القالع ،وكانت القوات تتألف أساسا ً من خيالة مدرعة ثقيلة بطيئة الحركة جلها من المرتزقة المحترفين للحرب ويقودها ضباط
مأجورون ال انتماء لهم (في المفهوم القومي) .وتميزت االستراتيجية آنذاك بال مركزية القيادة .وعدم الحسم وندرة المعارك
الفاصلة ،وكان حصار القالع محدود الهدف طويل األمد قد يمتد 7سنوات .غير أن مفهوم االستراتيجية أخذ يتبدل تدريجيا ً
باختراع األسلحة النارية وإدخالها إلى الجيوش (بدءاً من القرن الرابع عشر) إلى أن أصبحت مع بداية القرن السابع عشر جزءاً
من العلوم االجتماعية المعروفة ،وارتبطت ارتباطا ً وثيقا ً بالفكر االقتصادي والقانوني والسياسي السائد ،واتسعت وسائلها حتى
سملت الوسائل غير العسكرية التي يمكن االستفادة منها في قضايا الحرب .وانتشرت في جميع جيوش أوربة فكرة ما يعرف
باستراتيجية نطاق الحدود Cordon Strategyأي توزيع الحاميات على حدود الدولة لحمايتها ،والسعي إلى ربح الحرب
باصطناع المناورة على طرق المواصالت ومحاصرة القالع والمدن المهمة ومحاولة االستيالء عليها .ولم تأخذ االستراتيجية
معناها ومقصدها العصريين إال في مطلع القرن الثامن عشر ،واقتصر مفهومها آنذاك على المجال العسكري فقط .إال أن
االستراتيجية العسكرية حققت في ذلك القرن قفزات نوعية مهمة في بنية الجيوش وأساليب تجنيدها وعملها .وتبوأت سرعة
المناورة وخفة الحركة والقوة النارية مكانة رئيسة في ذلك المضمار .وطرحت الثورة الفرنسية والحروب التي تلتها في نهاية
القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر مفاهيم جديدة أدت إلى إعادة النظر في قوانين الحرب وتقاليدها القديمة كما أدت
إلى تبدل أساليب التجنيد وتنظيم الجيوش وتسلحيها فحلت القوات الثورية والمجندة محل المرتزقة ،وصارت أهداف الحرب
سحق القوى الحية ووضعها خارج القتال ،والسعي إلى تحقيق النصر في معركة فاصلة شاملة وبأعداد ضخمة من القوات
وتحت قيادة واحدة ،كما تنوعت األساليب االستراتيجية في الصراع المسلح كالهجوم والدفاع والمناورة العميقة ،واالنسحاب
المخطط إلنهاك العدو ،والهجوم العام المعاكس ،والمطاردة ،ووحدة القيادة ،والعمل على جبهة واسعة ،واالحتفاظ باحتياطات
استراتيجية وزجها في الوقت المناسب .وازدادت أهمية الدفاع االستراتيجي للمحافظة على األرض وعلى القاعدة المادية
الضرورية لالستمرار في الحرب ،واشتهر في هذه المرحلة عدد ضخم من كبار القادة االستراتيجيين أبرزهم نابليون بونابرت
(فرنسة) ورُميانتسيف وسوفوروف وأوشاكوف وكوتوزوف (روسية) ودوق ُولينغتون (إنكلترة) كما برز إلى جانبهم عدد من
المنظرين االستراتيجيين مثل كالوزفيتز (ألمانية) وجوميني (فرنسة) وغيرهما ممن درسوا مبادئ االستراتيجية العسكرية التي
طبقتها الجيوش األوربية في حروب نابليون وما بعدها ووضعوا لها النظريات المناسبة ،فصاغ كالوزفيتز على أساسها نظرية
إلى عالقة الحرب بالسياسة في مؤلفه الشهير «في الحرب» مؤكداً أن الحرب هي سالح السياسة ويجب أن تطبع بطابعها،
وتقاس بمقاييسها ،وأن الحرب هي السياسة ذاتها بمالمحها العامة ولكن بعد أن يستبدل السيف بالقلم ،أما جوميني فأوضح في
مؤلفيه «نُبد عن العمليات الحربية» و«مالمح فن الحرب» معارضته الستراتيجية الحدود وتأكيده ضرورة تشتيت قوى العدو
وتدميرها في وقعة حاسمة ،وحاول البرهنة على وجود مبادئ أبدية ثابتة لالستراتيجية اليمكن تجاهلها .ثم جاء الجنرال األلماني
فون مولتكه (األب) فأكد في مؤلفاته وفي تطبيقاته العملية قيمة المفاجأة في الهجوم وأهمية حشد القوات سلفا ً قبل خوض الحرب.
ونقد المنظّر العسكري الفرنسي اليفالب في مؤلفاته «مدخل إلى االستراتيجية» ( )1892و«استراتيجية المسير» ()1893
و«استراتيجية المعركة» ( )1896 -1895نظرية «المبادئ األبدية» التي نادى بها جوميني مؤكداً أن االستراتيجية ال عالقة لها
بالسياسة .وظهر في روسية في هذه الحقبة عدد من المنظّرين االستراتيجيين الذين خلفوا مؤلفات ذات شأن مثل ميدُم الذي بيّن
العالقة بين الحر والسياسة واالستراتيجية والتكتيك ( )1836ويازيكوف الذي درس أثر الجماهير في مجرى الحرب ()1842
ـ االستراتيجية في القرن التاسع عشر :ساعد استخدام السكك الحديدية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر في زيادة
سرعة تحرك الجيوش وإمدادها كما ساعدت األسلحة النارية السريعة الرمي في زيادة القوة النارية ،ومكن استخدام البرق
والهاتف في تحقيق السيطرة على القوات العاملة على اتجاهات متباعدة 7:الحرب األهلية األمريكية (1861ـ ،)1865الحرب
وأدى ذلك كله إلى ظهور استراتيجيات حديثة تستجيب لمتطلبات العصر وروحه ،وكان أبرز استراتيجيي هذه الحقبة رئيس
األركان العامة األلمانية افون شليفنب الذي طرح فكرة سحق العدو بضربة سبّاقة بقوى نسق استراتيجي قوي .أما ممثل
االستراتيجية الفرنسية فكان فريدريك فوش الذي وضع مبادئ ثابتة لخوض الحرب ،وقال بأن الشكل األساسي لألعمال
االستراتيجية هو الهجوم ،ونادى بضرورة حشد القوى على خطوط عملياتية داخلية لسحق أهم تجمعات العدو .وبرز في روسية
المنظّر العسكري ميخنيفتش الذي أوضح العالقة المتبادلة بين االستراتيجية والسياسة ،وأكد فكرة الشعب المسلح واعتماد الحرب
على االقتصاد ،وأثر وسائل الصراع الحديثة في تحقيق المهام االستراتيجية .أما في الواليات المتحدة األمريكية وبريطانية فقد
نصب اهتمام القيادتين السياسية والعسكرية والمنظّرين العسكريين فيهما على تحقيق السيادة على البحار وتطوير األسطول
الحربي وفي طليعتهم ف.كولومب (بريطانية) وآ.ماهن (الواليات المتحدة) وجوليان كوربت المؤرخ والبحار البريطاني (
1922-1854م).
ـ االستراتيجية في الحرب العالمية األولى وبين الحربين 7:كان منطلق معظم بلدان الغرب قبيل الحرب العالمية األولى (-1914
)1918في المفهوم االستراتيجي ضرورة عدم خوض حرب طويلة األمد .ولكن هذا المفهوم بدا غير قابل للتحقيق منذ األيام
األولى للحرب ،فانهارت خطط النصر الصاعق ،وأخفقت محاوالت الحلفين المتحاربين في إيجاد مخرج من الطريق المسدودة
التي دخلت فيها حرب المواضع ،ولم تستفد دول االئتالف من تفوقها على ألمانية بالقوى وبالوسائل المادية إال في نهاية الحرب
فحققت بذلك انتصارها .وفي أثناء تلك الحرب ازداد دور القيادة السياسية وتأثير السياسة في التوجه االستراتيجي وتأثير
السياسيين في تنسيق عمليات الصراع المسلح بين الدول المتحالفة .وكانت األهداف الرئيسة التي سعت االستراتيجية إلى
تحقيقها ،تدمير قوى العدو الحية واالستيالء على أراضيه أو االحتفاظ باألراضي التي سبق احتاللها .وازدادت إمكانات القيادة
االستراتيجية بظهور وسائل جديدة للصراع المسلح (الطيران والدبابات والغواصات) وتحسين أجهزة المدفعية 7واألسلحة
األَتماتية .إال أن تشكيل الجبهات االستراتيجية (مجموعات الجيوش) زاد في صعوبة القيادة ،كما زاد في أهمية الكمون
االقتصادي والبشري للدول المتحاربة ،وفي أهمية االحتياطات االستراتيجية وسرعة نقلها .وتم في غضون ذلك حل مشاكل
توحيد الجهود االستراتيجية وتنسقيها والتعاون االستراتيجي بين دول الحلف الواحد ،ولكن ببطء شديد وبخطى غير واثقة .فلم
تؤلف القيادة العليا لقوات دول االئتالف (الحلفاء) في أوربة إال في العام .1918وتمخضت ثورة «أكتوبر االشتراكية» في
روسية ( )1917عن مفاهيم استراتيجية جديدة استناداً إلى الدراسات النظرية العسكرية التي طرحها كارل ماركس وأنغلز حول
جوهر الحرب وأسبابها ،وسعى لينين إلى بلورتها ووضع األسس العلمية والعملية لتطبيقاتها في أعماله التي خص بها الصراع
السياسي وثورة البروليتارية .وفي أثناء الحرب األهلية وحرب التدخل األجنبي في االتحاد السوفييتي ( )1920-1918سعت
القيادة السوفيتية برئاسة لينين إلى تطبيق تلك المبادئ واألسس بوضع استراتيجية مرنة تعتمد الهجوم أساسا ً مع السماح بالتحول
إلى الدفاع بل واالنسحاب عند الضرورة مراعاة لإلمكانات البشرية واالقتصادي للدولة وأعدائها .وعمدت هذه القيادة بعد
الحرب األهلية إلى دراسة المشكالت النظرية والعملية للحرب الحديثة من وجهة النظر السوفييتية 7في عدائها للعالم الرأسمالي
المحيط بها ،وتوصل كل من :م:ف فرونزه ( .Frounze M.V )1925-1885و.م.ن .وتوخاتشوفسكي ()1937-1893
العشرين عاما ً الفاصلة بين الحربين العالميتين إلى إيجاد صيغة شاملة لالستراتيجية الحربية السوفييتية التي تبناها االتحاد
السوفييتي في بداية الحرب .ونصت هذه االستراتيجية على أن الحرب قد تكون حرب أحالف طويلة األمد شديدة المناورة،
وأساسها العمليات الهجومية العميقة المنفذة بالتتابع على مستوى جبهة أو مجموعة جبهات بتعاون وثيق بين جميع أنواع القوات
المسلحة وتقوم القوات البرية فيها بالدور الرئيس والحاسم ،ويعد الدفاع نوعا ً مشروعا ً من أعمال القتال يلجأ إليه إلنهاك العدو
إال أن نظرية الدفاع في المستوى االستراتيجي لم تدرس دراسة وافية قبل بدء الحرب العالمية الثانية ،ولم توضع الحلول
المناسبة لصد ضربات العدو المفاجئة بقوات سبقت تعبئتها في المرحلة األولى من الحرب .وبالمقابل فقد كان لألزمة المالية التي
أصابت البالد الرأسمالية في بداية الثالثينيات أثرها الكبير في تطور االستراتيجية العسكرية في دول الغرب ،ودفعها تنافسها
في السيطرة على العالم إلى تأليف جيوش محترفة تعد بالماليين 7،كما أدى تأثير خبرة الحرب األولى إلى المبالغة في تقدير
أهمية الطيران والدبابات في المعركة ،فظهرت نظريات جديدة تعالج فكرة تحقيق النصر « بحرب جوية» كما يقول اإليطالي
جوليو دويه ( Giulo Douhet )1930-1869أو «بحرب مدرعات» كما يذكر البريطاني جون فولَر (John )1966-1878
Fullerواأللماني هاينتز غودريان ،Heinz Guderianويرى بعضهم أن تكون الحرب شاملة سريعة كما يذكر األلماني
لودندورف ( Erich Ludendorff )1937-1865أو تتكفل بها القوى البحرية أو الخطوط المحصنة والمواضع الثابتة .وبعد
أن سيطر هتلر على ألمانية شرع في االستعداد للحرب علناً ،وتبنت القيادة االستراتيجية األلمانية مبدأ بدء أعمال القتال من دون
إعالن الحرب ،وتمكنت من السيطرة على عدد من دول أوربة بالتتابع وبسرعة خاطفة اعتماداً على القوى الجوية والقوات
المدرعة التي استخدمت بكثافة كبيرة مع االنزاالت الجوية .وأضحت فكرة تحقيق النصر في وقت قصير أساس االستراتيجية
تركز االهتمام في بريطانية على االحتفاظ بقوى بحرية وقوى جوية قوية من دون إيالء الحرب البرية االهتمام الذي تستحقه.
وافترضت القيادة االستراتيجية البريطانية أن الحرب البرية في أوربة يكفيها فيلق حملة يضم قوات برية من الجيوش الحليفة
كذلك كان شأن الواليات المتحدة األمريكية التي أعطت األولوية لألسطول البحري والطيران .وكان أسطولها البحري مع المشاة
البحرية قادراً على حماية حدودها البحرية .أما القوات البرية فأعطيت دوراً ثانويا ً وكانت قليلة العدد.
انطلقت االستراتيجية الفرنسية من فهمها (الخاطئ) لخبرة الحرب العالمية األولى وتقديرها (الضعيف) ألهمية وسائط الصراع
الحديثة التي أخذت تزداد قدراتها ،فصبت آمالها على حرب مواضع دفاعية تستند إلى منشآت حصينة في خطوط متتالية (خط
ماجينو ،وخط التحصينات البلجيكي) تعززها الدبابات والطيران إلنهاك العدو في معارك دفاعية ثم االنتقال إلى هجوم معاكس.
وتبنت القيادة االستراتيجية اليابانية مبدأ خوض الحرب في آن واحد في الجبهات البحرية والبرية لتحقيق سيطرتها على الشرق
األقصى كله ،وإضعاف مركز الواليات المتحدة وبريطانية في المحيط الهادي فكان لديها جيش بري قوي وأسطول بحري كبير.
ـ االستراتيجية في الحرب العالمية الثانية :كانت الحرب العالمية الثانية امتحانا ً عسيراً لالستراتيجية الحربية التي تبنتها كل
دولة من الدول المتحاربة .ومع أن العالم انقسم إلى حلفين رئيسين في هذه الحرب ،هما الحلفاء ودول المحور ،فقد كان لكل دولة
مذهبها االستراتيجي الذي تبنته .وكانت المواجهة األولى في بدء الحرب بين االستراتيجية التي طبقتها ألمانية النازية
واستراتيجية الحلفاء الممثلة بإنكلترة وفرنسة في البر األوربي والتي انتهت إلى فشل ذريع مكن ألمانية من سحق الدول األوربية
الضعيفة نسبيا ً (بولندة والنرويج وهولندة وبلجيكة ويوغسالفية واليونان) وتحطيم القوات اإلنكليزية والفرنسية واحتالل فرنسة،
وحصلت القيادة األلمانية في مقابل ذلك على خبرة كبيرة في تطبيق الحرب الصاعقة ،وعلى مصادر الخامات االستراتيجية
الضخمة في الدول المهزومة عززت اقتصادها الحربي ومنحتها عمقا ً استراتيجيا ً كبيراً ،وفي انقضاضها على االتحاد السوفييتي
طبقت ألمانية استراتيجية (الحرب الصاعقة) من جديد مؤملة سحق االتحاد السوفيتي واحتالل أراضيه في حملة عسكرية واحدة
أساسها استخدام القوات المدرعة والطيران بكثافة كبيرة .واضطرت القوات السوفييتية بالمقابل إلى خوص معارك دفاعية
حاسمة في شروط غير مالئمة 7،ومواجهة الهجوم االستراتيجي األلماني بدفاع استراتيجي عنيد تخللته ضربات معاكسة في
مستوى الجبهات والجيوش ،مع مقاومة شعبية قامت بها قوات األنصار في مؤخرات العدو .وتبنت هيئة القيادة العليا السوفييتية7
مبدأ المركزية الصارمة في إدارة العمليات والقيادة الجماعية في اتخاذ القرارات كي تتمكن من السيطرة على اإلمكانات
المحدودة التي توافرت لها في بدء الحرب مع وجود المبادأة العسكرية في يد األلمان .وفي المعارك الضاربة التي جرت في
عامي 1942-1941أُنهكت القوات األلمانية واستُنزفت مواردها وتمكن الجيش األحمر من انتزاع زمام المبادأة االستراتيجية
وإحباط استراتيجية الحرب الصاعقة .ومع انتقال القوات السوفيتية إلى الهجوم العام المعاكس قرب موسكو ( )1942اضطرت
القيادة األلمانية إلى تبني استراتيجية جديدة ترمي إلى تحقيق أهدافها في مراحل ،ولكنها أخفقت في تطبيقها أيضا ً بسبب تطاول
الجبهة وبعد قواعد اإلمداد ونقص االحتياطات االستراتيجية .وبعد موقعة كورسك ( )1943التي كانت آخر هجوم استراتيجي
ضخم تقوم به القوات األلمانية على الجبهة الشرقية انتهى إلى اإلخفاق التام تبدل الموقف االستراتيجي على الجبهة السوفييتية
األلمانية وغدا في صالح الجيش األحمر .وتبنت القيادة السوفييتية استراتيجية العمليات الهجومية المتتالية والموحدة هدفا ً على
اتجاهات متباعدة ،وتبنت القيادة األلمانية الدفاع المنسق والعميق على الجبهتين الغربية والشرقية من دون طائل ،وانتهت الحرب
وكانت الواليات المتحدة األمريكية وبريطانية قد اتفقتا على تبني استراتيجية منسقة تعتمد 7على مبدأ االقتصاد بالقوى وتجميعها
أوالً بأول ،وعدم استهالك إمكاناتهما الحربية المتنامية في مسارح العمليات سواء في أوربة أم في المحيط الهادي حتى يستنزف
الكمون الحربي لدول المحور وتنهك قواها ،ومن ثم تسدد الدولتان ضربات قاصمة إلى قوات المحور إلنهاء الحرب .وعندما
سنحت الفرصة الحقيقية لسحق ألمانية على يد القوات السوفييتية 7عام 1944نفذ الحلفاء الغربيون إنزالهم في النورمندي
وعملياتهم الهجومية الضخمة في فرنسة وألمانية نفسها وأنهوا حربهم ألمانية باحتالل برلين بالتنسيق مع القوات السوفيتية .
أما في مسارح المحيط الهادي فقد نجحت القوات المسلحة اليابانية في بداية الحرب في السيطرة على أجزاء شاسعة من المنطقة
بعمليات جوية بحرية مع إنزاالت بحرية ضخمة (آواخر )1942-1941وهددت كالً من الهند وأسترالية معتمدة على عدم
جاهزية الواليات المتحدة وبريطانية لخوض مثل هذه الحرب في المحيط الهادئ .وكان من عيوب االستراتيجية اليابانية عدم
المواءمة بين األهداف االستراتيجية المرجوة واإلمكانات الحربية والكمون االقتصادي الحربي للدولة .واضطرت اليابان بسبب
ذلك إلى محاولة إطالة أمد الحرب كي توفر لنفسها أفضل شروط إلنهائها.
تمخضت الحرب العالمية الثانية عن ظهور قوتين عظميين قسمتا العالم إلى معسكرين شرقي وغربي ،وراحت جميع الدول تعيد
النظر في استراتيجياتها على أساس الخبرة المكتسبة من الحرب ،واتسعت سياسة األحالف العسكرية حتى أصبحت ظاهرة
مميزة في خمسينات القرن العشرين ،وفي مقدمتها حلف الشمال األطلسي (الناتو )1949وحلف بغداد 7،وحلف جنوب شرقي
آسيا ،وكلها أحالف غربية ،وحلف المعاهدة المركزية (حلف وارسو )1955وهو حلف الدول االشتراكية .وأدى ظهور السالح
النووي والصواريخ الحاملة للرؤوس النووية إلى تطوير نظريات خوض الحرب واألفكار المتعلقة بطبيعة الحرب المقبلة
وأدخلت تعديالت كبيرة على االستراتيجيات العسكرية باالعتماد على السالح النووي ،واقتنعت القيادات االستراتيجية في معظم
تلك الدول بإمكان تحقيق المهام االستراتيجية الضخمة باستخدام السالح النووي الصاروخي على األهداف المعادية العميقة،
واستناداً إلى هذه التصورات وضعت األحالف العسكرية والقيادات االستراتيجية خططها على الصراع من أجل كسب السيطرة
على العالم وحرمان الطرف اآلخر منها .ففي آواخر األربعينيات وأوئل الخمسينيات عندما كان السالح النووي حكراً على
الواليات المتحدة األمريكية تبنت القيادة االستراتيجية فيها استراتيجية (اإلبادة الشاملة) أو (اإلنتقام المكثف) وأساسها خوض
حرب نووية وصاروخية شاملة تستخدم فيها جميع أنواع األسلحة المتوافرة وعلى جميع األهداف المعادية عند أول بادرة عداء
تبدر عن الطرف الثاني .وبدهي أن هذه االستراتيجية لم تكن قابلة للنجاح إال إذا كان الخصم ال يملك أسلحة مماثلة من حيث قوة
تدميرها وتأثيرها ومداها وإال أصبحت استراتيجية اإلبادة الشاملة انتحاراً متبادالً بين الطرفين .وفي الستينيات تبدل تناسب
القوى والموقف السياسي بين الدولتين العظميين لتزايد القوة النووية السوفييتية التي أصبحت قوة رادعة ،فظهرت إلى الوجود
نظرية تبنتها القيادة االستراتيجية األمريكية وقيادة حلف األطلسي تحت اسم «الرد المرن» أو «التجاوب المرن» وهي مبنية
على أساس اإلعداد للرد على كل عمل معاد بعمل يناسبه واستخدام القوات الكافية الحباطه ولو أدى ذلك إلى استخدام األسلحة
النووية التكتيكية في معارك محلية أو في مستوى استراتيجي محدود ،وال يكون الرد شامالً إال في نهاية المطاف .والغاية من
ذلك المواءمة بين الحرب المحدودة والمعارك المحلية وبين الردع الشامل من أجل إبقاء النزاع المسلح محصوراً في حدود
معينة مع التهديد 7بالرد الشامل حالً استراتيجيا ً احتياطياً .وبطبيعة الحال فإن قيادة مثل هذه العمليات االستراتيجية تتطلب دقة
بالغة في تحليل المعطيات واالستنتاج والقرار وحزما ً في التنفيذ وضبط األمور خشية التصعيد وبلوغ حد في النزاع ال يمكن حله
إال بالرد الشامل ،وقد تفرع عن هذه االستراتيجية مذهب آخر ينادي «بالرد المتدرج» أي تصعيد األعمال الحربية درجة درجة
ابتداء من األسلحة التقليدية وانتهاء باألسلحة النووية التكتيكية فاالستراتيجية مع عدم استبعاد إمكان الرد الشامل بحسب ما
تقضيه األحوال والعوامل المستجدة .ويرى أصحاب هذا المذهب أن استراتيجية من هذا النوع تتيح فرص الدفاع باستخدام
األسلحة التقليدية واألسلحة النووية الصغيرة ،من دون أن تؤدي إلى حرب شاملة.
أدى تطور المفاهيم االستراتيجية في الستينات وظهور المذاهب المذكورة إلى تبدل عام في مفهوم (النصر) عما كان عليه قبل
العصر النووي .ففي الحرب النووية سيلحق الدمار بالهازم والمهزوم وسوف تكون الحرب انتحاراً متبادالً 7يصيب جميع
األطراف المشتركة بالحرب وغير المشتركة أيضاً .والطرائق التي سوف تستخدم فيه األسلحة النووية سواء في الهجوم أو
الدفاع ،هي نفسها التي يتبناها الطرفان المتحاربان كالتدمير الوقائي ألسلحة الخصم (الهجوم المباشر) واعتراض وسائل الهجوم
المعادية (الدفاع المباشر) والوقاية من تأثير أسلحة التدمير الشامل المعادية والتهديد 7باالنتقام (الهجوم غير المباشر) وغير ذلك.
وكل هذه الطرائق وغيرها تتطلب تفوق أحد الطرفين على اآلخر في تقنيات االعتراض والهجوم حتى يستطيع تدمير وسائل
الهجوم النووي المعادية وإيصال وسائله إلى أرض الخصم ،وهذا السعي إلى تحقيق التفوق من قبل الطرفين أدى إلى ظهور ما
يعرف «بسباق التسلح» الذي مر بمراحل عدة منذ الخمسينات واستندت إليه «الحرب الباردة» بين الدولتين العظميين في
الستينات وهدفها اإلفادة من العلم والتقنية والصناعة واالقتصاد إلنهاك الخصم إنهاكا ً غير مباشر وإبطال مفعول أسلحته بإيجاد
أسلحة متفوقة عليها ،وتكليفه نفقات وجهوداً علمية وتقنية واقتصادية كبيرة لتحقيق التوازن االستراتيجي مع الخصم أو التفوق
عليه ،وإبقائه دائما ً تحت خط «التهديد باالنتقام» األمر الذي يضطره إلى االحتفاظ بقوة ضاربة كبيرة تكفي إلرهاب الطرف
اآلخر وردعه عن استعمال القوة المسلحة .وتفرعت عن «سباق التسلح» هذا استراتيجية «الردع» والردع في ذاته ظاهرة
قديمة تقوم أساسا ً على تهديد 7الخصم باستعمال القوة لمنعه من اإلقدام على تنفيذ ما يهدف إليه ،وهو أسلوب دفاعي كان وال يزال
أحد أسس النظريات العسكرية ،إال أنه اكتسب في العصر النووي أبعاداً جديدة .وإن تطبيق استراتيجية الردع ال يتوقف على
حجم الوسائل المخصصة لها فحسب ،بل يتعداها إلى البنية الفكرية والمذهبية 7والتاريخية والنفسية للشعب وكيانه .ومحصلة هذه
العوامل كلها هي التي تحدد نجاح استراتيجية الردع أو إخفاقها وهي تعتمد بالدرجة األولى على العاملين المادي والتقني وعلى
العامل النفسي للخصم ،والعامالن األوالن قابالن للحساب ويوفران الطاقة التدميرية والوسائل الكفيلة بإيصالها إلى أراضي
الخصم والقدرة على اختراق دفاعاته وإصابة األهداف بدقة عالية .أما العامل النفسي فيبقى على أهميته خارج إطار الحساب
الرتباطه بإرادة اإلنسان وتصميمه وإيمانه بقضيته .وتسعى استراتيجية الردع إلى زرع الثقة لدى أبناء الوطن ،وزرع الشك
عند الخصم ،وإخضاعه لنوع من الصراع النفسي يدفعه في خاتمة المطاف إلى اإلحجام عن المخاطرة باللجوء إلى الصراع
المسلح .ولكي يكون الستراتيجية الردع نصيبها من النجاح البد من أن تتوافر لها األسباب الكافية إلرغام الخصم على التراجع
عن نواياه تحت التهديد 7بخسائر تفوق ما يمكن أن يجنبه من كاسب ومزايا فيما لو مضى في تنفيذ ما عزم عليه .وتتميز
استراتيجية الردع النووي من غيرها بأنها فورية وشاملة يمكن أن يبلغ أذاها أقصى نقاط المعمورة ،وهي هجومية ودفاعية في
آن واحد .ويدخل في نطاقها أيضا ً استراتيجية «حرب النجوم» التي بدأت سراً منذ العقد السابع وتم تبنيها علنا ً مع بداية
إن تبني استراتيجية الردع ال يعني التخلي تماما ً عن أنواع االستراتيجية األخرى كالرد المرن أو التصعيد التدريجي ،ألن نجاح
الردع في منع الحرب أو أخير نشوبها ال يمنع حدوث األزمات أو المشكالت الدولية المحدودة التي قد يتطلب حليها اللجوء إلى
الصراع المسلح محليا ً واستخدام عدد محدود من القوات المسلحة الضرورية إلنهاء األزمة.
لم تعد االستراتيجية في الوقت الحاضر عقيدة محددة جامدة ،وإنما تنحو إلى أن تكون أسلوب تفكير يصنف الحوادث بحسب
أهميتها ويحلل أسبابها ،ويختار أكثر الوسائل مالءمة لمعالجتها .فلكل موقف استراتيجية معينة 7،وقد يكون اختيارها صائبا ً أو
مخطئا ً بحسب الحال .وإن هذا االختيار من أهم أسس االستراتيجية المعاصرة بسبب تعدد 7الخيارات المحتملة في الوقت
الحاضر ،إذ يمكن إلى جانب اللجوء إلى القوة العسكرية والتهديد بها ،االستفادة من القدرات االقتصادية والسياسية والدبلوماسية
والثقافية والمعنوية التي قد تحقق الغرض المطلوب منفردة أو مجتمعة .وعلى هذا يكون جوهر االستراتيجية المعاصرة فن
اختيار المنهج واألسلوب من بين الفرص المتاحة لما يناسب الحالة التي تواجه القيادة المسؤولة من أجل تحقيق أغراضها.
واالستراتيجية المعاصرة تخضع للسياسة حكما ً وترتبط بأغراضها ،وذلك أن العالقات الدولية ومصالح الدول متشابكة ومتداخلة
بحيث يخشى معها من تصعيد األزمات والمشكالت والصراعات المسلحة لمحلية وتحولها إلى صراع دولي تستخدم فيه األسلحة
النووية والصاروخية.
واالستراتيجية المعاصرة تتبع المذهب العسكري الذي يحدد لها األوضاع العامة واألساسية التي تستنبط منها طبيعة الحرب
المقبلة ووسائل إعداد الدولة للحرب وتنظيم القوات المسلحة وطرائق إدارة الحرب في العصر النووي.
واالستراتيجية المعاصرة شاملة ألن الحرب النووية الحديثة تشمل جميع مظاهر الحياة البشرية وتحيط بجميع جوانب النشاط
اإلنساني ،وهي حرب مدمرة عنيفة ال حدود آلذاها .ويمكن تحديد مفهوم االستراتيجية المعاصرة في أربعة مبادئ هي :ارتباطها
بأمن الدولة والمجتمع ،وعنايتها بتعبئة 7الطاقات الكامنة للمجتمع وتنظيمها وتوجيهها ،وقابليتها للتعديل والتطوير بتبدل األحوال
واإلمكانات والخيارات المتاحة ،وتضمنها جملة من االستراتيجيات المتخصصة التي تترابط وتتكامل فيما بينها لتحقيق أغراض
ولعل من أهم ميزات االستراتيجية المعاصرة تالؤمها مع التبدالت التي تطرأ على طبيعة الحرب ووسائلها وطرائق إدارتها كلما
تبدلت اإلمكانات المادية والتقنية في الدولة .ويرى المنظّرون االستراتيجيون أن تدمير القوات المسلحة المعادية لم يعد الهدف
الرئيسي الذي تسعى إليه االستراتيجية إذ يمكن تحقيق التفوق االستراتيجي والوصول إلى نتائج حاسمة من دون خوض معارك
ضاربة كبيرة ،كما يمكن إجبار العدو على االستسالم وتجريد قواته من سالحها من غير تدميرها ،واألمثلة على ذلك كثيرة في
التاريخ القديم والحديث المعاصر ،وهي كلها تلقي ضوءاً على أهمية الكمون العسكري واالستراتيجية العليا والروح المعنوية
لألطراف المتنازعة .وإن نجاح االستراتيجية في بلوغ أهدافها مرهون بالتقدير السليم لإلمكانات المتاحة المتوافرة ـ البشرية
والمادية والمعنوية ـ واستخدامها االستخدام الصحيح لبلوغ األغراض المرسومة .والعالقة بين الوسيلة والغرض عالقة جدلية
متطورة تقابلها العالقة بين الحاضر والمستقبل ،ألن االستراتيجية تحدد المنهج والوسائل الممكنة لبلوغ الغاية في ضوء رؤية
مستقبلية لتلك الغاية ،وتأخذ في الحسبان احتماالت التطور ،وتبني نظرتها على أساس الترجيح بين الحلول المقترحة واختيار
البديل المحتمل باالستناد إلى تلك الرؤية .وال يقصد بالوسائل هنا الوسائل العسكرية فقط ألن الحرب الحديثة هي حرب نووية
وصاروخية شاملة تفترض تبني استراتيجية شاملة ترتبط ارتباطا ً عضويا ً بالسياسة واالقتصاد ويخرجها ارتباطها هذا عن
إطارها السابق المقيد بالهيئات العسكرية ليحولها إلى علم وفن يهتم بهما صانعو القرارات ،ويسعى الجميع إلى ممارستهما
ووضع مناهجهما وتدريسهما في األكاديميات والجامعات والمعاهد المتخصصة .وأصبح المنظرون االستراتيجيون من المدنيين
على قدم المساواة مع المنظرين العسكريين ويعملون معهم في ميدان واحد يهدف إلى كشف قوانين االستراتيجية ومبادئها
وأسسها ومفاهيمها وتكييفها وفقا ً ألهداف الدولة والمجتمع وإمكاناتهما لتكون منهجا ً يسير عليه صانعو القرار ومرجعا ً يستندون7
إليه في قراراتهم.